ارتبطت الجدران في شوارع قطاع غزة وأحيائه، ارتباطـاً وثيقـاً بأعمال المقاومة، حتى أنها كانت في حقبة الثمانينات بمثابة الوسيلة الأهم للتعبير عن الرأي؛ فتلك القرقعة التي يحدثها رج اسطوانة الطلاء (البخاخ) لازالت عالقة في أذهان أبناء المخيمات. لقد كان هذا الصوت في زمن الانتفاضة الأولى (1987-1994) إيذانـاً بكتابة منشور هام للرأي العام.
وعمدت الفصائل الفلسطينية خلال الانتفاضة، إلى استخدام الجدران بصفتها واحدة من وسائل التعبير عن الغضب الفلسطيني؛ سواء بالكتابة أو بالرسومات ضد الاحتلال، وكان ذلك الفعل في تلك الحقبة بمثابة فعل عدائي بالنسبة للكيان الصهيوني يلاحق مقترفه، ومن هنا اقترن الفن بالمقاومة كما يقول البعض.
ورغم أن ذاكرة المقاومة مشبعة بالأحداث، إلا أنها ارتبطت في مهدها بالفن، إذ استطاع المقاومون أن يحاكوا العمليات الفدائية ضد جنود الاحتلال عبر الرسومات التي كانت تستخدم فيها عُلب الطلاء (البخاخ)، وغالبـاً ما كانوا يرسمون أشخاصـاً مقنعين وهم يطلقون النار على الجيبات العسكرية الصهيونية، فيما كانت قوات الاحتلال تجبر المدنيين بالقوة على إزالة جميع هذه المنشورات والرسومات، باستخدام الطلاء الأبيض،”الشيد”.
محمد حامد (48 عاماً) من غزة، اعتُقل ثلاث مرات لدى الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، على خلفية نشاطه الفني في الكتابة على الجدران، وتجسيد أعمال المقاومة في التصدي لجنود الاحتلال. يستذكر بعض الرسومات التي كان يجسدها عبر جدران شوارع مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، ويقول: “كنا نرسم المقلاع، والسكين، والمصحف، وعمليات الرشق بالحجارة على السيارات العسكرية وأشياء أخرى كثيرة. لم نكن فنانين وقتها، لكننا اكتشفنا مواهبنا بالصدفة وصقلناها بالممارسة”.
وتوقف الرجل عن موهبته بتوقف هذه الحالة الفنية المقاومة، ارتباطـاً بالمتغيرات السياسية، وتحديداً بعد إعلان تشكيل السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو عام 1993، إذ انعطفت الحالة التعبيرية انعطافـاً هادئـاً نحو التعبير الفني البحت، بعيداً عن جدلية السياسة وتعقيدات الاحتلال، وما لبث الرسم المُقاوم على الجدران أن استعاد مجده مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، لكنه لم يكن بالقالب المتواضع الذي عرفه الناس إبان الانتفاضة الأولى، إذ تعززت فرص وصول رسالة الأعمال المقاومة إلى الناس عبر وسائل الإعلام المرئية. لكن رغم ذلك، احتفظت الجدران بمكانتها في أنها ظلت وسيلة التعبير الأكثر رمزية في تجسيد صور المقاومة الفلسطينية، من خلال ما يعرف بالفن التشكيلي أو صناعة الجداريات.
تطورت هذه الحالة زمانيـاً ومكانيـاً، إذ انتقلت مع مرور الوقت من تجسيد اللوحات داخل جدران المخيمات التي كانت تمثل أيقونة العمل المقاوم، إلى الشوارع الرئيسية في المدن وعلى المفترقات الحيوية في المحافظات الخمس الرئيسية لقطاع غزة.
هنا، تشير الفنانة التشكيلية رشا أبو زايد إلى أن التاريخ يعيد نفسه من خلال مواصلة استثمار الجدران كوسائل للتعبير لكن بأشكال وأدوات مختلفة، مؤكدة أن جزءاً كبيراً من الجداريات كان مستوحى من واقع المعايشة اليومية سواء للاحتلال والعدوان أو الحصار.
وقالت أبو زايد: “جدران وشوارع غزة تعبر عن قيمة جمالية عالية، لاسيما أنها تحتوي على الملايين من الكلمات واللوحات ذات التعابير الفنية العميقة تؤرخ لذاكرة شعب واقع تحت الاحتلال، ولكن بأشكال فنية مختلفة”، مؤكدة أن الفنانين التشكيليين الشباب استطاعوا أن يبدعوا خلال سنوات الحصار المفروض على غزة في تجسيد واقع الحياة المأساوي.
ومن الواضح أن هناك تحولاً كبيراً شهدته جدران قطاع غزة تزامناً مع ما يعرف بمسيرات العودة التي انطلقت في الثلاثين من آذار/مارس الماضي، إذ استطاع الفنانون أن يصنعوا بالتزامن مع المظاهرات التي تشهدها نقاط التماس مع الاحتلال؛ جداريات داخل المدن والأحياء في محافظات مختلفة من القطاع.
وتركزت تلك الجداريات في مدينة غزة، بصفتها قلب القطاع كما يحلو تسميتها للفنان التشكيلي محمد أبو ليلة، وهو واحد من الفنانين الذين شاركوا في صناعة جدارية تمتد بطول عشرة أمتار وسط شارع الجلاء، ترمز لحق عودة اللاجئين والقدس، وقال أبو ليلة، إن أصدقاءه الفنانين رغبوا بنقل التظاهرة الفنية التي شهدتها مخيمات العودة في خمس مناطق رئيسية من قطاع غزة، إلى داخل المدن وأبرزها مدينة غزة، “وذلك من أجل إيصال رسالة الفنان التشكيلي في تثبيت أركان حق العودة”، موضحاً أن الجداريات التي نفذوها تجسد التسلسل التاريخي منذ زمن النكبة حتى الوقت الراهن، وغالبيتها تأتي بجهود ذاتية.
وأضاف، “اللوحات التي صنعت على الحدود كانت مرتبطة بالحراك الشعبي وستنتهي بانتهائه، بينما الجداريات داخل المدن تمتاز بأن عمرها طويل نسبياً، ويمكن أن يراها المارة بشكل دائم”، معتبراً أن “صناعة هذه الجداريات واجب وطني كان لابد من العمل عليه وتجسيده على أرض الواقع، من خلال محاكاة ما يجري على الحدود عبر جداريات فنية عامة، يمكن أن يمر بها جميع الأشخاص الذين لم يشاركوا في المظاهرات”.
ولا يُخفي أبو ليلة معوقات يواجهها الرسم على الجدران في غزة، فيقول: “تصاب بالإحباط حينما تجد أن بعض أصحاب البيوت المطلة على شوارع ومفترقات رئيسية يرفضون تلوين حوائطهم ورسم الجداريات عليها”.
وإلى جانب توثيق الأحداث، فإن الجداريات داخل الأحياء والمدن تسعى إلى زراعة الأمل بالعودة لدى الناس، وفق ثائر الطويل، رئيس منتدى الفن التشكيلي في فلسطين، الذي يؤكد أن الفن التشكيلي كان جزءاً لا يتجزأ من اللُّحمة القائمة على حدود غزة خلال مسيرات النكبة، “ولهذا قرر الفنانون نقل المعركة الفنية إلى داخل المدينة من أجل تجسيد حق العودة وأهمية مقاطعة منتجات العدو، وكذلك تعزيز ثقافة المقاومة الفنية”.
إحدى الجداريات التي مررنا بها تمثل الانتقال الزمني منذ النكبة الفلسطينية عبر رسم الخيام، مروراً بطريق محفوف بالصبار – كناية عن آلام المشوار – ثم يد فلسطينية في منتصف الطريق متشحة بالكوفية، وطائرة ورقية، وفي نهايتها طفل يحمل مقلاعاً يواجه به وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
يعلق الطويل قائلاً: “من الواضح أن رسالة هذه الجدارية هي إبراز كافة مناحي الظلم التي عايشها الشعب الفلسطيني وصولاً لمرحلة نقل السفارة الأمريكية للقدس، وهي تجسد الرفض القاطع لهذا القرار، كما أن الطائرة الورقية التي ينعتها العدو بأنها طائرة حربية، تأتي هنا للدلالة على أنها ترسم الأمل والفرح لأطفالنا”.
ويؤكد الطويل أن الفن التشكيلي جزء من المقاومة، “فالريشة واللون حاضران مع البندقية والحجر في كل ساحات المواجهة، والحركة الفنية قدمت الشهيد محمد أبو عمر على مذابح العودة”، مبيناً أن الاحتلال أراد استهداف الفنانين والصحافيين على حد سواء، من أجل طمس صورته البشعة.