في نهاية عام 2022 وبداية العام الجديد، لم يتخذ اللبنانيون حتى الآن أي إجراءات داخلية للنهوض بقضية الرئاسة، وهذه الحالة غير طبيعية، وتشير الأدلة إلى أن السلطات اللبنانية تعتمد على الجهات الأجنبية الفاعلة في حل الازمة السياسية والذين لا يلتفتون أبداً الى حال هذا البلد.
قضية لبنان ليست من أولويات المحور الغربي العربي
وأوضحت مصادر نيابية لبنانية أنه حسب الإشارات المتاحة، لا يمكن الاعتماد على تطورات الأشهر المقبلة على الأقل لحل الأزمة السياسية في لبنان. خلافا للدعاية التي ظهرت في الأسابيع الماضية، لم تضع جهات خارجية القضية اللبنانية على رأس أولوياتها في أجندة العام الجديد، وحتى فرنسا لا تملك الشروط اللازمة للتعامل مع الأزمة اللبنانية.
بناءً على هذه المعلومات، لا تزال المشكلة بعيدة عن الحل لأن لكل طرف أجنبي مصالحه الخاصة التي يسعى إلى توفيرها في لبنان. على سبيل المثال، تحاول الولايات المتحدة حماية أمن ومصالح إسرائيل على حدود لبنان، والفرنسيون لديهم أيضًا مصالح اعتمدوا فيها على نجيب ميقاتي، رئيس الوزراء المسؤول عن تشكيل الحكومة اللبنانية، وينعكس ذلك في الكلمات الأخيرة للرئيس إيمانويل ماكرون، والتي تبين أن الجمهورية الفرنسية أعطت إنذارا للبنانيين لحل خلافاتهم الداخلية.
تتعلق الحالة الأولى في هذا المجال بموقف فرنسا الأكثر نشاطا في حالة لبنان. لكن تصرفات الفرنسيين حتى الآن لم تؤد إلى أي مبادرة محددة، وانحصرت هذه الإجراءات فقط في التأكيد على ضرورة التفاهم بين الأطراف اللبنانية من أجل انتخاب الرئيس، ولم يسموا أي مرشح. كما أشار ماكرون بشكل مباشر إلى موقفه من الحالة السياسية للبنان، وأكد أن على اللبنانيين أنفسهم إيجاد طريقة لحل الأزمة السياسية في هذا البلد.
تؤكد المملكة العربية السعودية، بصفتها فاعلًا عربيا في الساحة السياسية اللبنانية، والتي تبنت بشكل أساسي مواقف غامضة ومتناقضة من قضية هذا البلد خلال الفترة الأخيرة، أنها لا تريد أن يكون لها أي دور مباشر في قضية انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، وأن هذا موضوع يجب على الأطراف اللبنانية أن يبتوا فيه. في الواقع، لا تزال المملكة العربية السعودية متمسكة بخطة تتوافق مع سياستها ومصالحها الخاصة في حالة لبنان ولم تظهر أي نية لدفع اتفاق مع الأطراف المعنية في هذا المجال.
حتى قمة “بغداد 2” التي انعقدت في الأردن أواخر عام 2022 وحضرتها جهات أجنبية في لبنان، منها فرنسا والسعودية، لم تساعد في تقدم الملف السياسي اللبناني، ولم تصدر الأطراف المذكورة أي بيان لدعم هذا البلد.
لكن الولايات المتحدة هي أكثر الجهات الأجنبية تأثيراً على الحالة السياسية في لبنان، والتي ادعت على ما يبدو أنها لا تنوي التدخل في هذا المجال، ولا سيما موضوع انتخاب رئيس في هذا البلد، وعلى اللبنانيين أنفسهم أن يجدوا حلاً للخروج من المأزق، لكن الأدلة تظهر أن الأميركيين من خلال سفارتهم في بيروت اعتمدوا على استمرار الفراغ السياسي في لبنان لتحقيق أهدافهم في هذا البلد، وخاصة ضد حزب الله.
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإطالة الأزمة اللبنانية
في غضون ذلك، قررت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، اللتان لا تستطيعان رؤية نفسيهما بعيدين عن الساحة السياسية في لبنان، اللجوء إلى استراتيجية “الأرض المحروقة” بدلاً من التدخل المباشر ولعب الدور، والاعتماد على إطالة أمد الفراغ السياسي في لبنان. بقي هذا البلد في مأزق سياسي منذ عدة سنوات، وخلال هذه الفترة انقلبت آلة المحور الإعلامي السعودي الأمريكي على حزب الله وتم تحديد هذا الحزب على أنه مسؤول عن الفراغ السياسي وانهيار البلاد.
لذلك، لا تتطلع أمريكا وحلفاؤها اليوم لانتخاب رئيس في لبنان. حتى دعمهم لقائد الجيش جوزيف عون ليس جدياً وهم ينوون فقط تحدي جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر المعارض في ترشيح جوزيف عون. كما يصر المحور الأمريكي على عدم انتخاب أي من المرشحين المدعومين من حزب الله، مع عدم تقديم أي مرشح جاد لرئاسة لبنان.
في الواقع، أطلق الأمريكيون مناورة لقضية الرئاسة اللبنانية، يفضلون فيها أن تكون فترة الفراغ السياسي في هذا البلد أطول، ولكن إذا لم يحدث ذلك، فعلى الأقل يكون الرئيس في منصبه والذي يخضع لسياسات واشنطن. بناءً على ذلك، تحاول أمريكا وحلفاؤها التظاهر أمام الرأي العام اللبناني بأنهم يحاولون إخراج هذا البلد من المأزق السياسي وانتخاب رئيس، لكنهم في الواقع يسعون وراء هدف آخر.
مناورة اميركية لاتهام حزب الله في قضية الرئاسة اللبنانية
كما تحاول الولايات المتحدة القول إن حزب الله لا يدعم سوى سليمان فرنجية زعيم حركة المردة، وهذه عقبة أمام حل القضية الرئاسية. لأن حزب الله لا يدعم فرنجية علنًا من أجل فتح الطريق أمام مرشحين آخرين وأكد أنه يبحث عن رئيس توافقي.
من جهة أخرى، تشير المعلومات التي نشرتها صحيفة الأخبار إلى أن الولايات المتحدة تطلق مشروعا، حيث تخطط قوى 14 آذار في الأسابيع المقبلة للقول إنها تنوي انتخاب شخص أكاديمي لرئاسة الجمهورية اللبنانية التي ليس لسيرتها الذاتية أي موقف استفزازي وتحذف الخيارات الأخرى.
في هذا السياق، يقول دبلوماسي أوروبي إن المسؤولين الأوروبيين تحدثوا بصراحة مع نظرائهم اللبنانيين ووعدوا بعدم إلقاء اللوم على السلطات اللبنانية في القضية السياسية بعد الآن، وأن بإمكان اللبنانيين مناقشة انتخاب الرئيس والاتفاق عليه بهدوء أكبر.. لأن أوروبا في الوقت الحاضر لديها مخاوف ومشاكل أهم بكثير من قضية الرئاسة اللبنانية. أي إن القضية اللبنانية ليست أولوية أوروبا، وعلى اللبنانيين ألا يعتمدوا على الأوروبيين لحل هذه المشكلة.
حتى الاجتماع الرباعي، الذي يقال إنه سيعقد في باريس في الأيام المقبلة بحضور جهات أجنبية مثل السعودية والولايات المتحدة وقطر وفرنسا، لن يتضمن مواقف ونتائج جادة لحل قضية الرئاسة اللبنانية، ولن تقدم أي خارطة طريق بهذا الخصوص. لأن قرار الأمريكيين والأوروبيين وحلفاءهم بشأن القضية السياسية للبنان واضح: إطالة فراغ الرئاسة اللبنانية وفرض مسؤوليتها الكاملة على حزب الله.
لذلك، في هذه الاستراتيجية التي اعتبرها المحور الأمريكي للساحة السياسية اللبنانية، يجب إطفاء كل المحركات التي يمكن أن تؤدي إلى انتخاب رئيس في لبنان، والمسؤولية عن ذلك على حزب الله.
لكن التقارير الأمريكية المعدة لمقارنة استراتيجية المواجهة المباشرة (2005-2018) واستراتيجية الأرض المحروقة (التي بدأت في لبنان عام 2019) تظهر أن استراتيجية الأرض المحروقة للولايات المتحدة في لبنان أفضل من استراتيجية المواجهة المباشرة وذات نتائج أفضل.
هل سيكون عام 2023 نهاية الفراغ السياسي في لبنان؟
في المقابل، لا تلتفت الدول العربية والغربية إلى رسالة اللبنانيين بخصوص الخيارات الرئاسية التي يقبلها جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر والسعودية والغرب. ويبدو أن الدول العربية والغربية تفضل بقاء الوضع على ما هو ولبنان ليس من أولوياتها.
أفادت مصادر دبلوماسية بأن مسؤولين مسيحيين في بكركي في لبنان اقترحوا 3 أسماء على الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية التي تثق بها دول الخليج الفارسي والأوروبيون، وقالت إن جبران باسيل وممثلي فصيله سيصوتون على أحد هذه الخيارات الثلاثة. لكن الجهات الخارجية المذكورة لم تتفاعل ويبدو أنها لا تنوي إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان.
لكن أهم ما سيدركه الشعب اللبناني بعد الأحداث المستقبلية بوقت قصير هو أن السفارة الأمريكية في بيروت ليس لديها استراتيجية لحل مشاكل لبنان وأن الإجراء الوحيد الذي تتخذه هذه السفارة فيما يتعلق بالأزمات في لبنان هو أن تلقي المسؤولية عن ذلك بأي شكل من الأشكال على حزب الله وإخافة كل الأطراف المرتبطة بهذا الحزب. لهذا السبب، فإن الأمل بأمريكا أو أي من حلفائها في إخراج لبنان من المأزق السياسي والمراهنة عليه هو سراب.
لذلك، وانطلاقاً من الأجواء السياسية اللبنانية والمعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام في هذا البلد، من المتوقع أن يبقى الوضع في لبنان على ما هو عليه خلال الأشهر القليلة المقبلة، و لا سيما في سياق انتخاب رئيس الجمهورية. تعتقد بعض القوى السياسية في هذا البلد أن السيناريو قد يكون الفترة السابقة التي استمر فيها الشغور الرئاسي من 2014 إلى 2016 سوف تتكرر مرة أخرى في المرحلة الحالية.
كما أفاد عدد من المصادر المطلعة بأن إطالة منصب الرئاسة حتى نهاية عام 2023 ليس سيناريو بعيد المنال، وإذا لم تتخذ السلطات اللبنانية إجراءات لتنفيذ اتفاق داخلي ومواجهة تأثير المصالح الأجنبية، فربما تكون فترة الشغور الرئاسية في هذا البلد أطول في المرحلة الحالية. مع فارق أن اللبنانيين عالقون الآن في أكبر أزمة اقتصادية في تاريخهم، حيث إضافة إلى غياب الرئيس، فإن هذا البلد ليس لديه حكومة رسمية.