رلى إبراهيم
ثلاثة ملايين دولار أنفقها رئيس التفتيش المركزي جورج عطية، بموجب مذكّرة تفاهم بينه وحده(!) وبين السفارة البريطانية ممثّلة بالسفير إيان كولارد، أفضت إلى «تعرية» اللبنانيين والأجهزة الأمنية عبر وضع كل الـ«داتا» المتعلقة بهم أمام مؤسسة بريطانية غير حكومية سمّتها السفارة البريطانية في بيروت.
بموجب المذكّرة، سُلّمت هذه المؤسسة منصة impact التي تدير برنامج المساعدات المالية، رغم تحذيرات الأجهزة الأمنية، ومن دون عرضها على الوزارات المعنية أو مجلس الوزراء. أكثر من ذلك، عمل عطية، بعد انقضاء السنوات الثلاث المنصوص عليها في المذكّرة، على تجديدها سنة جديدة، ومن ثم عرض الأمر على رئيس مجلس الوزراء طالباً «قبول الدعم التقني والفني»، بعد أربع سنوات من قبوله هذا الدعم وإنفاقه. تجاوزات عطية لدوره وصلاحياته وتعريضه الأمن السيبراني للخطر باتا محور تحقيق فتحه ديوان المحاسبة، وسط معلومات عن تحرك السفير البريطاني باتجاه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وغيره من المعنيين بالملف لـ«لملمة» الأمر، خصوصاً أن السفارة البريطانية متورّطة مباشرة في هذه المخالفات القانونية
مطلع تشرين الأول 2019، أطلقت إدارة التفتيش المركزي التي يرأسها القاضي جورج عطية مشروعاً تحت عنوان «الحوكمة والرقابة والمحاسبة في لبنان» (Governance, oversight and accountability in Lebanon- GOAL)، وبدأت تنفيذه وفق مذكّرة تفاهم وقّعتها إدارة التفتيش مع وزارة الخارجية والتنمية البريطانية ممثّلة بالسفارة البريطانية في بيروت لمدة ثلاث سنوات (حتى 31 آذار 2022)، على أن تُنفذ المشروع مؤسسة «سايرن اسوشيتس» البريطانية غير الحكومية. هدف المشروع، كما عرّف عنه التفتيش، هو «دعم (إدارة التفتيش) ومساعدتها في بناء قدرتها وتطويرها وتعزيز رقابتها وتفعيل تعاونها مع الإدارات والمؤسسات العامة، وتحسين استجابتها مع المواطنين».
بُدئ العمل بالبرنامج قبل 3 سنوات، وتطوّر لاحقاً ليشمل إنشاء مواقع إلكترونية لتلقّي لقاحات كورونا وطلب أذونات للتنقل خلال فترة الحجر المنزلي، ثم إنشاء منصة impact التي سجّل المواطنون عبرها طلبات للحصول على البطاقة التمويلية وبرنامج شبكة الأمان الاجتماعي. لكن، لأسباب غير واضحة، وقّع رئيس التفتيش والسفير البريطاني في لبنان إيان كولارد مذكّرة التفاهم في أيلول 2021، أي بعد مرور نحو عام ونصف عام على بدء العمل بها. هذه العلاقة الملتبسة بين عطية والسفارة البريطانية دفعت رئاسة الحكومة، أخيراً، إلى تحويل الملف الى ديوان المحاسبة والنيابة العامة التمييزية، تضمّن طلب الإضاءة على عدة نقاط لناحية «كشف داتا اللبنانيين أمام جهات غير رسمية والتلاعب والمُحاباة في اختيار المستفيدين من برنامج شبكة الأمان الاجتماعي وعدم الاستجابة لطلب الأجهزة الأمنية بالاطّلاع على منصة impact التي لا تسمح سوى لموظفي الشركة البريطانية بالوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة بالمنصة».
المذكّرة التي وقّعها عطية وكولارد، ولم تُعرض على أي جهة رسمية، نصّت على تخصيص السفارة 2.5 مليون جنيه إسترليني (نحو ثلاثة ملايين دولار) مقابل التزام التفتيش بالعمل مع السفارة والشركة المكلّفة من قبلها («سايرن») بشفافية و«الاستجابة لطلباتهما بمرونة وفعالية وضمن مهل زمنية محددة». علماً أن هذه «المعاهدة» بين مؤسسة لبنانية وسفارة أجنبية لم يكلف رئيس التفتيش نفسه عناء عرضها على وزارتي الخارجية والعدل أو الأمانة العامة لمجلس الوزراء لتحيلها إلى الحكومة وإصدار قرار بالموافقة عليها. بدلاً من ذلك، ارتأى عطية صرف أموال ما سماها «هبة بريطانية» من تلقاء نفسه، ومن دون تطبيق المسار القانوني الذي يفرضه الدستور في حالات مماثلة، ومن دون التصريح عن طرق صرفها. كما فتح أبواب إدارته أمام مهندسي الشركة البريطانية للتحكم بكل مفاصل المنصة، وما يعني ذلك «تعرية» الأسر اللبنانية تماماً عبر الاطّلاع على أرقام الحسابات المصرفية لأفرادها ورواتبهم ومساحات منازلهم وأرقام سياراتهم وما إذا كانوا يملكون براداً أو غسالة وصولاً إلى عدد سفراتهم ووجهاتهم وأدقّ التفاصيل المتعلقة بحياتهم اليومية. حصل ذلك كله على مدى 3 سنوات، وسط صمت مريب من الحكومة ومجلس النواب وكل المسؤولين، رغم مراسلات الأجهزة الأمنية. ولم يكن رئيس الحكومة ليتحرك لولا أن عطية، ولسبب غير واضح، قرّر في 5/4/2022، أي بعد 5 أيام على تاريخ انتهاء المذكّرة مع «سايرن»، إبلاغ رئاسة مجلس الوزراء بها عبر كتاب أرفق فيه نسخة عن المذكّرة طالباً «الاطّلاع وتقرير المناسب آملين الموافقة على قبول هذا الدعم التقني والفني المقدّم لرفع قدرات التفتيش المركزي لما فيه من خير على العمل الرقابي والإداري وخدمة الوطن والمواطن».
الاستجابة لطلبات المؤسسة البريطانية
سريعاً، أحال الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية طلب رئيس التفتيش بقبول الدعم من البريطانيين إلى وزير المالية يوسف خليل للاطّلاع عليه، مورداً في متنه أن الملف «لم يتضمن أي رأي لوزارة الخارجية قبل توقيع المذكّرة، كما لم يصدر أي تفويض سابق بتوقيعها على النحو الذي يفرضه قرار مجلس الوزراء في 5/3/2015، والذي حدّد المسار الإداري لإعداد وإقرار الاتفاقيات والمعاهدات ومذكّرات التفاهم (…) والذي يبدأ باستطلاع وزارتي الخارجية والعدل، ومن ثم أخذ موافقة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء على التفاوض، وبعدهما عرض المذكّرة على مجلس الوزراء للموافقة عليها والتفويض بالتوقيع، على أن يصار إلى إيداع الصكّ وزارة الخارجية لمتابعة دخوله حيز التنفيذ».
وإلى هذه المخالفات التي ارتكبها رئيس التفتيش، ثمة مخالفة أساسية أشار إليها كتاب مكية تتعلق بـ«عدم صدور أي قرار عن الحكومة بقبول الهبة الممثّلة بالدعم التقني والفني الواردة في المذكّرة بميزانية إجمالية وصلت إلى 2.5 مليون جنيه إسترليني»، وخلو الملف من «أي كشوفات أو مستندات تُبيّن وجهة الصرف والإنفاق والقيود الثبوتية ذات الصلة». وقد أرسل الأمين العام لمجلس الوزراء نسخة من هذا الكتاب إلى ديوان المحاسبة، ونسخة من كتاب التفتيش إلى مديريتي الأمن الداخلي والأمن العام لإعلامهما بأن المذكّرة التي اطلعت عليها رئاسة الحكومة أخيراً تتضمن «التزاماً من السفارة البريطانية بدعم التفتيش المركزي من أجل تعزيز مراقبة بيانات المعلومات المُجمعة ووضع معايير خصوصية للبيانات وضمان الدعم المعلوماتي مع ما يتعلق من تركيب البرامج الرقمية وأمن البيانات».
السفير البريطاني يضغط لـ«لملمة» الملف بسبب تورط سفارته في المخالفات والسطو على داتا المعلومات
الأخطر من ذلك أن المذكّرة تضمنت «التزام إدارة التفتيش الاستجابة لطلبات محددة من فريق» مؤسسة «سايرن اسوشيتس» دون تحديدها، علماً أن رئيس الحكومة شكّل في 30/11/2021 لجنة فنية برئاسة وزير الداخلية لدراسة الجانب الأمني والسيبراني لمنصة Impact والصفحات الإلكترونية المتفرعة منها. علماً أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم سبق أن نبّه رئيسَي الحكومة السابق حسان دياب ومجلس النواب نبيه بري، في مراسلة رسمية، إلى المحاذير الأمنية، بعد توسع عمل المنصة ودخولها إلى مختلف الإدارات العامة، ومنها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والصليب الأحمر ووزارتا الشؤون والصحة والمتضررون من انفجار مرفأ بيروت والمصابون بفيروس كورونا ومختلف البلديات والمخاتير. وكذلك شمل نشاط المنصة قطاعات حكومية ورسمية، فيما لزمت إدارة هذا المشروع برمّته إلى مؤسسة غير حكومية، ما يسمح لها بالسيطرة على كل تفاصيل المشروع والبيانات الخاصة باللبنانيين. ولفت إلى أن مهندسي المنظمة يشرفون تقنياً على المنصة، وبالتالي لا قدرة لموظفي التفتيش على مجاراتهم تقنياً، ما يعني سيطرة تامة للمؤسسة البريطانية. وذكر الكتاب المرسل من الأمن العام أن الشركة البريطانية استضافت المنصة على خوادم أجنبية (تم استئجارها من leaseweb في ألمانيا وهولندا) لحفظ الداتا، أي أن كلّ بيانات اللبنانيين وبيانات الإدارات التي اشتركت في هذه المنصة أصبحت على خوادم خارج لبنان، وليس معروفاً من له حق الولوج والتحكم بتلك الخوادم وسحب البيانات منها. وأشارت المراسلة إلى عدم وجود ضمانات تقنية وأمنية تؤكد عدم اختراق تلك البيانات من قبل جهات معادية، إن عبر قرصنتها وسرقة نسخة عنها أو عبر تعديلها والعبث بها.
نتيجة مراسلة إبراهيم، شُكّلت لجنة برئاسة وزير الاتصالات حينذاك طلال حواط لدرس موضوع المنصة من الناحية الأمنية، وأصدر وزير الداخلية السابق محمد فهمي تعميماً على الإدارات والمديريات والبلديات يطلب فيه عدم التعاون مع المنصة. إلا أن وزير الداخلية الحالي بسام المولوي أطاح بتعميم فهمي عبر وقف العمل به بحجة أن «اللجنة الوزارية المختصة بتحديد آلية ومعايير تطبيق البطاقة التمويلية أثبتت أن ملكية معلومات البطاقة تعود للدولة اللبنانية ممثّلة بمجلس الوزراء، وأن الأجهزة الأمنية والخوادم ستوضع لدى أوجيرو وتكون مشفّرة تحت إشراف ومراقبة التفتيش المركزي»، ما يعني استمرار الشركة البريطانية في إدارة هذه المنصة وتصرفها بالبيانات كما تشاء، إذ إن الحديث عن التشفير ليس سوى مجرد كذبة، نظراً إلى أن من يضع الخوادم ويستخدمها باستطاعته أيضاً فك تشفيرها متى رغب بذلك ولا سيما أن مهندسي «سايرن» هم المكلفون بصيانة المنصة وخوادمها.
ضغط بريطاني
كل هذا لم يردع رئيس التفتيش المركزي عن توقيع ملحق رقم 1 لمذكّرة التفاهم بينه وبين السفارة البريطانية (رغم أن علاقته مباشرة بشركة «سايرن» وليس مع السفارة) في 1/7/2022، ثم إرسال كتاب جديد إلى رئيس مجلس الوزراء في 19/7/2022 يطلعه فيه على هذا الملحق، رابطاً بين توقيعه على التمديد (سنة كاملة لغاية 31 آذار 2023) وبين رأي وزارة المال بضرورة الحصول على موافقة الجهة المانحة لناحية تمديد مهلة التنفيذ، ليصار لاحقاً إلى استصدار مرسوم إبرام مذكّرة التفاهم وقبول الهبة وفقاً للأصول بالتنسيق مع المالية. ويأتي في متن الملحق أن الدعم الذي ستقدمه السفارة يرتكز على تأمين استمرار التفتيش بالعمل بالأنظمة المعلوماتية والبرمجية من خلال مؤسسة «سايرن»، على أن تلتزم السفارة بدعم التفتيش لصيانة المنشآت والتجهيزات والتدريب والتجهيز وتحديث الوثائق من خلال المؤسسة البريطانية.
إذاً، استمر عطية في مراكمة المخالفات والقفز فوق الدستور والقوانين، ما دفع رئاسة الحكومة إلى إرسال كتاب بتاريخ 1/8/2022 إلى رئيس التفتيش، ووجّهت نسخة منه إلى ديوان المحاسبة، حول تجاوز عطية صلاحياته، من منطلق أنه «لا يمكن إيلاء التفتيش المركزي مهامَّ تنفيذية غير رقابية» لأنها «تتناقض مع جوهر وجوده ومهامه الرقابية في ظل غياب نص قانوني ينيط به تلك المهام».
وكان قد سبق لمجلس شورى الدولة أن أوضح في ثلاثة كتب مختلفة عدم جواز استضافة التفتيش المركزي لمنصة impact انطلاقاً من أنها مسؤولية السلطة التنفيذية التي يفترض أن تكون خاضعة لرقابة التفتيش، وبالتالي لا يعقل في حال اضطلاع التفتيش بدور تنفيذي أن يقوم بمراقبة نفسه. كما أشار كتاب السراي إلى تقاعس رئيس التفتيش عن تزويد رئاسة مجلس الوزراء بالداتا لتمكينها من التدقيق في عمل المنصة في ضوء المراجعات المتكررة حول التلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين من برنامج المساعدات المالية، وتسريب المعلومات إلى جهات غير رسمية، وعدم التجاوب مع فريق الأجهزة الأمنية المكلف دراسة الجانب الأمني والتقني للمنصة، في حين يسمح فقط لموظفي «سايرن» بالوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة.
على الأثر، فتح رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران تحقيقاً في الملف واستدعى رئيس التفتيش لاستصراحه منذ نحو شهر تقريباً. لكن عطية، بحسب المعلومات، رفض الحضور بحجة أنه يدير هيئة رقابية ويعتبر نفسه «فوق المساءلة»، رغم أنه تخطّى دوره الرقابي وتورط في مهام تنفيذية. واللافت أن الشهرين الماضيين شهدا تغيرات كثيرة ولا سيما بعد طلب البنك الدولي، المموّل لبرنامجَي المساعدات وفق قرض، نقل المنصة من إدارة التفتيش إلى رئاسة الحكومة. ولكن، حتى الساعة، لم تفض النقاشات إلى أي اتفاق. وعلمت «الأخبار» أن السفير البريطاني بدأ يجول على المعنيين للملمة الملف، ولا سيما أن السفارة متورطة مباشرة في المخالفات وبالسطو على داتا المعلومات وبالقيام بأعمال داخل مؤسسة رسمية لبنانية من خارج الأطر القانونية. وبحسب المصادر، فإن الديوان يتابع تحقيقه، وقد استصرح وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار وغيره، وهو في صدد إصدار قرار بشأن رئيس التفتيش، فيما الخشية قائمة من أن تساهم الضغوط الممارسة على الحكومة في إقفال الملف.