” ما زال هذا اللّيل ينجب نجمة “

الوفاق: إنّ ‏الشّعر عموماً، والمعاصر منه خصوصاً ما انفكّ يستخدم الرّموز والمواقف ليثير في نفس المتلقّي انفعالات ومشاعر، ينفذ النّاقد أو القارئ من خلالها إلى البنية الشّعورية واللّاشعورية للأديب.

الدكتورة خلود عبد النّبي ياسين – لبنان

 

أن يخرج الشعر من كونه وصفاً لشعور ما، أو تصويراً لتفصيل عاطفي لدى الشّاعر ‏إلى كونه ‏خلقاً لمجموعة من الأحداث والمواقف ‏هو ما ذهب إليه الشاعر توماس س. إليوت .

وبين الشعر والتخييل، تنبع أهميّة التّخييل من كونه خاصيّة فارقة تميّز الأدب عن غيره.

 

إنّ ‏الشّعر عموماً، والمعاصر منه خصوصاً ما انفكّ يستخدم الرّموز والمواقف ليثير في نفس المتلقّي انفعالات ومشاعر، ينفذ النّاقد أو القارئ من خلالها إلى البنية الشّعورية واللّاشعورية للأديب.

 

‏ وانطلاقاً من مراقبة سريعة لعناوين دواوين الدّكتور كميل حمادة، نلاحظ كيف يتقن الشّاعر فنّ العزف على نوتات خاصّة تنعش الخيال لدى القارئ، من خلال تشكيله لعتبات النّصوص الّتي يطرح من خلالها أولى الإشارات السّيميائيّة المدروسة بعناية تامّة لتثير الجدل والاستفهام.

 

لذلك فإنّ عناوينه بؤرٌ عميقة الدّلالات، وعالم حاضر لشبكة عتبات نصيّة تشكّل البذرة الأولى في حقول رؤيته الخضراء، والّتي تتجمّع في بيدر ” معجمه الكميليّ”، فضاء من الإيحاءات العميقة ضمن سياق خاصّ به.

 

ففي ” ما لم يقله …الله”، يحدّثنا الشّاعر في قصيدته “زيارات ليليّة”، ص ٢٣ عن” زيارة السيّاب ومحمود وطير العراق مظفّر له “، محاولاً التقاط صورة تسلّط الضّوء على آليّات صقله لتجربته الخاصّة ” عند مفترق الكتاب حيث (أدونيس) والكتابة حيث (هو).

 

فلغة المبدع تنشأ رموزها وأبعادها معاً، و”لا تفهمها بالعودة إلى مصادر سابقة، بل تفهمها بالغوص في ذواتها” يقول أدونيس.

وبين التّقليد والتّجديد يختار حمادة أن ينحو منحى خاصّاً به فيقول :

 

“كم عارياً من كلّ أسلافي أتيتُ

…و أكتب ُ

لا جدّ يُقرئني الكتابَ

ولا يشابهُني

أب”

 

لكنّ كميل حمادة ” ثالوثي الإنتماء “،إنّه ابن الماء والنّهر والصّفصاف، يحفر آبار اللّغة، فيشكّل ماء شعره بموهبة نادرة، ليجعل من الشّعر كلّ شيء حي، فتهطل قصائده في بادية القلوب لتروي عطشها نحو التّجديد، مشكّلة رذاذاً ينعش شرايين الجداول الشّعريّة، كما ينعش العاصي (الجرد).

 

قصائد حمادة المعجونة بالدّهشة والحيرة، والمليئة بالرّموز والانزياحات، تحاول تخليص الشّعر من الرّتابة، ‏فنجد الشّاعر يستخدم لغته الخاصّة المفتوحة ‏على الاحتمالات والتّأويلات، ‏وهنا يكمن التّحدي والخطر في آن، ‏لكنّ الشّاعر يمشي واثق الخطى فـ” يُغنّي في جبّته الماء” فتراوده اللّغة عن نفسها، ليضيق ذرعاً بها، متّخذاً من القلق عصاه الموسويّة ودليله لشقّ بحر التّجربة بشقّيها الإبداعيّ والإشكاليّ، فيقول :

 

” لغة من القلقِ_الإلٰهِ

 

مكثفاً

 

يوحي إليّ إذا دخلتُ “حرائي”…

 

كميل حمادة المثقّف، المليء بالتّناقضات، الجريء، المشتعل بالثّورات، المولودة قصائده من عذوبة الماء، المسكون بالهموم الإنسانيّة، والقضايا الأخلاقيّة، المشغول بالعراق وفلسطين والشّهداء، ينظم شعره نيابة عن كلّ المتعبين، فيقول:

” كأنّي كلّ المتعبين

بصمتهم

يهوّم عصفور ويهرب طائر ”

 

يبحث الشّاعر عن الفرادة والغرابة منذ إصداره الأوّل، فمن نبوءة الماء يكمل مسيرة الغرباء في ” النّبي ما بعد الأخير“، فيكتب حمادة لأجل الشّعر، الّذي يمثّل بالنّسبة إليه باب الخلاص، وقسطاس الوجود، ويبدو في هذا الدّيوان كأنّه بعض نبيّ أو قدّيس يتلمّس الغيب بغية الوصول إلى اليقين، فيقول:

 

“أنا مولع ٌ بالغرابة

 

مشتعل بالمدى والقلق

 

نبيٌّ على وحيه لا ينام …و يحيا على غيمة من أرق”

 

كميل حمادة الشّاعر (العاصي)، يحدّد اتّجاهه محلّقاً خارج سرب الشّعراء من أبناء جيله،خارجاً عن النص،فيقول:

“أنا خارجيّ النّص…

مزدحمٌ بكلّ تناقضاتي ”

 

ويُكمل الشّاعر الغوص في بحر التّجربة، باحثاً عن أسرار (تاء التّأنيث)،محاولاً فهم عالم المؤنّث، المتقلّب والمزاجي حيث يتقاطع في هذه الرّؤية مع رؤاه، ناصحاً النّساء بقوله:

“لا تأمننّ لشاعر

هو زئبقيّ في المزاج

و قرطبيّ في الهوى

يبني لهنّ ممالك الدّنيا على لغة الزّبد”

 

ويرتّل آياته الخاصّة “للمرأة اللّغة الخائنة ” كما نعتها في الإهداء، طارحاً إشكاليّة خطيرة في ديوانه، تتمثل في السّؤال الآتي: “لمن تكتب الشّعر ؟”

 

يحاول حمادة الإجابة عن السّؤال وهو في سنّ النبوّة،فها هو”النّبي ما بعد الأخير “يتمّ الأربعين، فيعرج من دون براق إلى فضاءات الشّعر الزّرقاء، يتلمّس غيب القصيدة، فيضيء نجمة جديدة في سماء الجمال، تاركاً بصمة خاصّة في ديوان جديد بعنوان ” ما زال هذا اللّيل ينجب نجمة “.

 

يُحسن حمادة في هذا الدّيوان القبض بإحكام على أدوات اللّغة،ويلاعب بجنونه شياطينها ليروّضها على طريقته الخاصّة، ويبتعد عن تاء التّأنيث قليلاً،في تجربة أعمّ مليئة بالحوارات والسّرد، حيث تطول جمل القصيدة وتقصر تبعاً للحالة النّفسيّة (للسيّد كاف)،حيث يشعّ الدّيوان بشذرات شعوريّة وشعريّة بين الكاف والنّون، بين (السيّد كاف) و(نون النّسوة) .

 

يحاول حمادة في ديوانه الأخير سرد قصص عن طريق الشّعر، تاركاً بصمة لا تشبه بصمة أحد، فلو قرأنا له نصّاً من دون توقيع لعرفناه من سياق الكتابة، حيث يبدع في رسم خطّ شعريّ خاصّ به، تاركاً في نفوس القرّاء أثراً يشبه أثر الفراشة،على الرّغم من وعورة الطريق .

 

يُبدع حمادة في تصوير قصص الحبّ، لكنّ قصصه الشّعريّة لا تشبه قصائد جميل ولا عمر، بل تشبه طريقة كميل المختلف أو (السّيّد كاف )،الّذي يسرد القصيدة بأسلوب لا يخلو من الرّعشة والدّهشة،فيقول:

 

“بيروت ليست كما تعرفين، لقد أسرف الحزن فيها ذبولاً، فزادت جمالاً كما أنت “.

 

كميل حمادة المُرهَف والمرهَق والمرهِق يحاول إشراك القارئ في قراءة نصّه المشبع بالإحالات الاجتماعيّة، والثّقافيّة، والفكريّة، والنّفسية، والإيديولوجيّة الثّاوية في لاوعي متفاعل ومنفعل مع وعي يجيد قراءة ما يريد،منوّعاً في شخصيّات الأنثى: الطّفلة، الحديقة، الصّديقة، الحبيبة، إلخ..

 

يقول:”اكتب عن صديقتك الشهيّة في المدينة… ابتعد عنها وحاول أن تحاول قصّة أخرى…”

 

إنّ الشّاعر يريد إيصال رسالة خاصة من خلال ديوانه الأخير مفادها: أنّ السّرد قد يكون رافعةً في النّصّ الشّعري، وذلك في محاولة لهدم المقولة السّائدة عن التّناقض بين السّرديّة والشّعريّة، مقدّماً نموذجاً مغايراً يدحض هذه المقولة، فيمزج بين مغامرة العشق ومغامرة السّفر السّردي في دروب القصيدة بمفردات مموسقة وعبارات انسيابيّة مشعة بالإيقاع .

 

يقول حمادة:

“فليغفر الله للعشّاق إن ضلّوا

كأنّهم، حين جنّوا في الهوى، صلّوا ”

وأنا أقول لكم:

ولا يخلو العالم  الدّاخلي والسرّي (للسيّد كاف) من التّيه والضّياع.

 

هذا التّيه الّذي يرافق حبيبته القلقة، لأنّه المتحكّم بالأحداث، فوحده من يضع( ياء) النّهاية،نسمعها تقول وهي على قلق: “لا حصّة لي في حياتك، أنت تنساني وتمضي، ثمّ تأخذك القصيدة والصّديقة والقضايا والمرايا والمآسي الشّعريّة…”

 

كميل حمادة شاعر وناقد ورؤيويّ، يستحق شعره الدّراسة والانتشار، لأنه يمتاز عن غيره من الشعراء فهو يعرف ماذا يكتب ؟و لماذا؟ و لا يعرف أين يريد الوصول ؟ ونحن بحاجة إلى أمثاله في هذا الزّمن الصعب، بوجوده ووجود أمثاله من الضالّين سيكون الشّعر بخير والسّاحة الأدبيّة بألف خير.

 

المصدر: الوفاق/ خاص