من الجلي الواضح، أن المخاض العالمي دونه خسارة الولايات المتحدة الأميركية للكثير من مواقع النفوذ في مدارات الكرة الأرضية، وبالأخص في المنطقة المسماة “الشرق الاوسط”، ما يعني أن بعض الولادات لا بد من أن تكون قيصرية، في ضوء حرب الإبادة التي يرتكبها النظام الصهيوني، لا سيما بوجود شهود الزور من دول عربية، على وجه الخصوص.
من العار أن بعض الدول العربية، تمارس بالتواطؤ مع الإدارة الأميركية انصياعًا للجرائم “الإسرائيلية” – الأميركية،بموازاة الانخراط العلني والضمني في حملات التشويه المبرمجة، بحق الذين يريدون انتشال البلاد العربية من سبات طالأ مده، مع إدراك أولئك المتواطئين بأن كلّ الوعود الأميركية ليست إلا كلمات مزخرفة وفق الحاجة الآنية لتمرير ما تريد من مصالحها، في ما تسميه الأمن القومي الأميركي، وضمنًا الكيان الصهيوني كعصا باتت هشة مع الصمود الأسطوري الذي يشاهده العالم كلّ يوم.
إن الخسائر التي تلحق كلّ يوم بالمشروع الأميركي – الصهيوني، ذي الأصول البريطانية في فلسطين خصوصًا، جعلت الإدارة الأميركية أكثر رعونة اتّجاه زعماء في المنطقة العربية، اختاروا طأطأة رؤوسهم خوفًا من خسارة مُلك وسلطة لا يقدرون على صونهما كالرجال.
من المهم في هذا المجال أن يتوقف حكامٌ في بلاد العرب والمسلمين، بجدية أمام الكلام الصريح للأمين العام لجامعة العربية أحمد أبو الغيط، وهو ليس بعيدًا عن الهوى الأميركي، إذ تحدث عن مرحلة انطوت في كيفية تعاطي أميركا الأرعن مع الحكام العرب، وإن كان ليس من باب تقديم فعل التوبة، وإنما في سياق توثيق لتلك المرحلة التي عملت الولايات المتحدة فيها على الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، الذي كان الأكثر تماهيًا مع السياسات الأميركية في المنطقة، وأكثر المتشددين في الحفاظ على اتفاقية “كمب ديفيد” التي كان أبرز عناوينها إلى جانب الصلح مع “إسرائيل” “الرخاء الاقتصادي” غير المسبوق، وهذا ما تحول إلى مزيد من الإفقار والجوع في بلد تخطّى عدد سكانه 115 مليون بشري.
كشف أبو الغيط كيف أن النظام في مصر لمس، وإن لم يكن متأخرًا، أن الولايات المتحدة تريد فرض رؤية كاملة للوضع العربي والتغيير بشكل يتنافى مع فكرة الاختيار والسيادة. والكثير من الأطراف العربية كانت تنسق مع بعضها بعضًا وتقول للمصريين: الأمور لا تسير هكذا بشأن الانتخابات البرلمانية، وأعلن أن الحكومة المصرية كانت على اطلاع على التواصل الأميركي مع جماعة إسلامية داخل وخارج مصر، “كما كنا على اطلاع على تجهيزات لتمويل الشباب المصري للخروج لدورات تدريبية في متابعة الانتخابات الوطنية. لكن مبارك رفض اتّخاذ أي إجراءات للتصدي لتلك الاتّصالات لأن له رؤية وهي عدم استفزاز الولايات المتحدة والعالم الغربي مع معرفته أن هناك تحركات ضدّه”.
بالطبع هذا يكشف كيفية تعاطي الولايات المتحدة مع كلّ من يرتضي، أو يقبل، سواء بالتهديد أو الضغط أو الإغراء، تنفيذ ما تريده الولايات المتحدة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، وحتّى الثقافي في إشعار المجتمعات أنها لن تتطور إلا من خلال المنظور الأميركي.
إن التجربة الحالية منذ طوفان الأقصى، يفترض أنها أدخلت بصيص نور وأمل لضرورة القول كفى، لا سيما أن كلّ الحراك الغربي الذي تديره الولايات المتحدة لا يأخذ في الاعتبار إلا مصالحها، وبالتالي الحفاظ على الكيان الصهيوني وتفوقه على دول المنطقة، وكثير من الزعماء العرب تيقنوا من خلال المحادثات في الأشهر التسعة الماضية أن واشنطن لن تسمح بأن يستعيد الفلسطينيون ولو بعض حقوقهم السليبة وأولها دولة فلسطينية قابلة للحياة، لأن ذلك نقيض وجود الكيان الصهيوني. إن الجملة المفتاحية في كلّ لقاء أن دولة فلسطينية لا يمكن أن تكون إلا بموافقة “إسرائيل”، وما الكلام عن بحث في كيفية العمل إلا في سياق الخداع المزخرف، كي يضغط العرب على الفلسطينيين للقبول بنزع سلاحهم وإلقاء أي ورقة قوة في سلة المهملات الأميركية.
بلا شك، إن كلّ من يلتقي الأميركيين وعلى أي مستوى، يتيقن أنه ليس في تفكير الإدارة الأميركية وجود لدولة فلسطينية، وإنما الكلام العام عن ذلك لا يعدو كونه إغراق السامع بكلام مسموم ظاهره معسول لزوم الاستمالة والاحتواء من ضمن إعادة تشكيل أولويات واشنطن، في السياسة عمومًا والاقتصاد خصوصًا، بعد ظهور تكتلين مهمين عالميًّا، والمقصود منظمة دول بريكس ومنظمة دول شنغهاي للتعاون، لا بل إنهما باتا يشكلان ركائز صلبة وأساسية لعالم لا تسوسه واشنطن بعقل استعماري، بل هما يلبيان تطلعات شعوب الأرض في عالم متعدد الأقطاب متساو في المصالح والاختيار الوطني والقومي. وفي هذا السياق أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن منظمة شنغهاي للتعاون إلى جانب مجموعة بريكس، تشكلان الركائز الأساسية للنظام العالمي الناشئ الجديد. وقال، خلال اجتماع مجلس رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون: “تشكّل منظمة شنغهاي للتعاون، جنبًا إلى جنب مع مجموعة بريكس، الركائز الأساسية للنظام العالمي الناشئ الجديد، وهاتان الرابطتان هما محرك قوي لعمليات التنمية العالمية وتعزيز التعددية القطبية الحقيقية”. وأضاف بوتين أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة في منظمة شنغهاي للتعاون، تعود بفوائد واضحة على جميع المشاركين، مؤكدًا أن مشروع القرار بشأن تطوير استراتيجية تنمية منظمة شنغهاي للتعاون، حتّى عام 2035، يحدد آفاقًا لمزيد من تعميق التعاون، ليس فقط في السياسة والأمن، ولكن أيضًا في الاقتصاد والطاقة والزراعة والتقنيات العالية والابتكارات.
إن وجود التكتلين آنفتَي الذكر، ووضوحهما على أساس مبادئ المساواة ومراعاة مصالح أعضائهما لبعضها بعضًا، واحترام التنوع الثقافي والحضاري والبحث عن حلول جماعية للمشاكل الأمنية الملحّة، يستدعي من الدول العربية كدول فرادى، ومن الجامعة العربية كتكتل طالما حركته الولايات المتحدة، أن تنظر بعين المصالح الجامعة ما دام الوفاق السياسي متوافر حاليًّا، والعمل الفعلي في إعادة تقييم العلاقات مع الغرب في ضوء التجارب المريرة والاخضاعية، والعمل فرادى وجماعة على التصدي للضغوط الأميركية الاخضاعية، والتي لا تأخذ بالحد الأدنى بمصالح وتطلعات وآمال شعوب المنطقة، كخطوات وجوبية تؤهل لعلاقات ندية متساوية في سبيل مستقبل يمكن صناعته، ولو كان من أجل المصالح حصرًا.
هذا الأمر بحد ذاته ينسحب أيضًا على دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وغالبيتها دول قادرة اقتصادية، ويشكّل العرب فيها ثقلًا لا يستهان به ليكون للجميع مكان مرموق تحت الشمس، يمكنهم المحافظة عليه بقدرتهم الاقتصادية غير المستباحة من الغرب، وبالتالي تشكيل قوى اقتصادية لها وزنها العالمي، في التأثير السياسي، والحفاظ على الهوية والثقافة، بدل الانصياع للغرب الذي أثبت في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني أنه لا يرى في العرب شركاء، إلا في المساهمة بتذويب هويتهم، والتخلي عن إيمانهم، أو في الحد الأدنى اعتناق الدين على الطريقة الأميركية. وفي ذلك أمثلة لا تعد ولا تحصى، وليس آخرها قيام الولايات المتحدة بتخصيص دورات تدريب لمجموعة من الضباط الأردنيين في أميركا على كيفية تسويق إسلام تريده واشنطن ضمن خطة أن يتحول هؤلاء الضباط إلى مفتين في الدين، الآن داخل الجيش، ولاحقًا ينتشرون في المجتمعات لنشر الفتن، لعلّ الولايات المتحدة تستعيد مراكز نفوذ من خلالهم، رغم أن تجاربها السابقة في هذا المجال، مثل “داعش”، كانت مكلفة.