الوفاق/خاص/ عبير شمص
ستة وعشرون سنة مضت على استشهاد المهندس، القائد المجاهد يحيى عياش، الذي شكل للإسرائيليين كابوساً، وتحدى منظومتهم الأمنية والعسكرية والسياسية في أعلى مستوياتها القيادية، الذين عاشوا في حياته رعباً، وحاروا في مواجهته، وتعبوا في ملاحقته، وأنهكهم بحثاً عنه ومطاردةً له، وعجزوا عن الوصول إليه قبل أن ينال منهم مجدداً، ويضربهم في العمق كثيراً، فقد كان شبحاً يطاردهم، وقتلاً يباغتهم، وانفجاراً يفاجئهم، وخوفاً يسكنهم، وهواجس تعيش معهم، وكابوساً مخيفاً يجثم عليهم.
المهندس الأول، وصقر الكتائب.. هكذا أطلق عليه الفلسطينيون، فيّما لقبه الاحتلال بعدة ألقاب منها الثعلب، العبقري، الرجل ذو الألف وجه، الأستاذ، المهندس، فهم كانوا معجبين إعجابًا شديدًا بعدوهم الأول كما كانوا يصفوه، والمطلوب رقم واحد لديهم، كانوا معجبين بالعقل الفذ والرجل العبقري، وذلك الطيف الذي كان عصيًا على الرؤية، حتى قال عنه أحد قادتهم: “إنّه لمن دواعي الأسف أنّ أجد نفسي مضطرًا للاعتراف بإعجابي وتقديري لهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع”.
لهذه المناسبة حاورت الوفاق الباحث في الشأن الإسرائيلي والشؤون العربية والفلسطينية الدكتور مصطفى اللداوي والذي جمعته علاقة مع الشهيد المهندس، وكان الحوار التالي:
الشبح الذي أرعب الصهاينة
في بداية الحوار قال الدكتور مصطفى:” أحاول في ظلال هذه المناسبة الأليمة، التي حرمتنا من طاقةٍ مبدعةٍ، وقدرةٍ خلاقةٍ، وعزيمةٍ جبارةٍ، وعاملٍ لا يتعبُ، ومجاهدٍ لا يمل، وهمةٍ لا تفتر، أنّ أشير إلى بعض الحوادث التي جمعتني به وعرفتني عليه خلال سني الدراسة في جامعة بيزيت، وقد أحزنني كثيراً اغتياله، وآلمني استشهاده، وحَزَّ في نفسي كثيراً طريقة الوصول إليه والتعرف عليه، وهو الذي أعيا الإسرائيليين بحثاً، وأعجزهم ملاحقةً، وأصابهم بالخبل والجنون جهلاً بمكانه، واضطراباً في المعلومات عنه، حتى غدا الوصول إليه وقتله حلماً يراود رئيس حكومتهم الأسبق إسحق رابين، الذي ما فتئ يوبخ أجهزته الأمنية وقيادته العسكرية، ويعيب عليها عجزها وضعفها وتقصيرها وفشلها”.
الشاب الصامت الرزين
وأضاف الدكتور مصطفى قائلاً : “قلةٌ هم أولئك الذين تنبأوا بمستقبل يحيى عياش إبان دراسته في جامعة بيرزيت، وقليلٌ هم الذين كانوا يعرفون كنه هذه الشاب الصامت الرزين، البسيط المغمور، المتلفع بثيابه البسيطة، والمخبوء بأسماله العادية، المنطوي على نفسه، والهادئ في طبعه، والمتأمل في صمته، والعنيد في رأيه، إذ لم يكن يميزه عن بقية الطلاب شيء، ولا يعير الانتباه إلا بورعه وزهده، وتواضعه وميله للبعد عن بقع الضوء اللافتة، حيث لم يكن يتقدم الصفوف، ولم يكن يقود الجموع، ولا يحب أن يشار إليه بالبنان تشريفاً أو تكريماً، ويكاد لا يعلو صوته صاخباً، ولا يتمعر وجهه غاضباً، بل تسكن شفتيه البسمةُ الصامتةُ، والهدوءُ الواعي، والتفكيرُ العميق”.
وتابع مُعرفاً بالشهيد:” كنت أتابع وإخواني نشاط طلاب وطالبات الكتلة الإسلامية في بلدة “أبي قش”، بصفتي رئيساً لها وأميناً عليها، فكنت أجد يحيى مع كثيرٍ من الطلاب غيره، يجلس على الأرض، مكباً على بعض الأوراق المقواة، التي تحمل شعارات الكتلة الإسلامية في الجامعة، يهيئها لترفع، ويسوي من وضعها لتكون لافتةً مميزة، وقد رأيته مراتٍ عديدةً يحمل بعض هذه الأوراق ويثبتها بنفسه، أو يتعاون مع زملائه عليها، فيما يبدو عليه الفرح أنه يعمل ويجهد، ويشارك ويساهم، شأنه شأن أغلب طلاب وطالبات الكتلة، الذين كانوا يبدعون في عطاءاتهم ومساهماتهم اليومية، ما يجعلني دوماً أشعر بفخر الانتماء إلى هذه الكتلة الإسلامية الرائدة، في ظل طلابها المبدعين الناجحين، الذين نرفع بهم الرأس بهم مباهاةً وفخراً، ونتيه معهم سعادةً وفرحاً”.
وأضاف:”أذكر يوم استشهاد الأخوين الكريمين جواد أبو سلمية وصائب ذهب في العام 1986، كيف خرجت جامعة بيرزيت بكل طلابها وأطيافها الفكرية والتنظيمية، تؤبن طالبي الكتلة الإسلامية الشهيدين، وتزف إلى نفسها نبأ استشهادهما، وإنّ اختلفنا مع حركة فتح حول انتماء أحدهما، فكان يحيى عياش من أوائل الذين تلقوا الخبر، فالتحق صامتاً بالجموع التي التقت في كافتيريا الجامعة، وكان الخبر قد تناهى إلى أسماعنا بينما كنا نصلي العصر جماعةً، فاستعرت الحماسة في القلوب، واندفع الطلاب كالليوث، كلٌ يريد أن يثأر وينتقم، أو أن يلحق بالشهيدين الذين كانا أول شهداء الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، وكان لشهادتهما دورٌ كبير في تأطير العمل الوطني الطلابي في الجامعة”.
وأكمل حديثه عن صفات الشهيد وخصاله:” يحيى عياش الطالب النجيب النشط، المتفوق المبدع النهم، الغيور على قضيته الجلد، المهندس الكهربائي المتقد، لم يكن ثعلباً كما وصفه ضباط العدو، بل كان مؤمناً بقضيته، مخلصاً لوطنه، صادقاً في مقاومته، متطلعاً إلى النصر والتحرير”.
مهندس العمليات الإستشهادية
أمّا عن بدايات عمل الشهيد الجهادية فأوضح الدكتور مصطفى بأنّ :”الشهيد أدرك أنه قادرٌ على المساهمة من خلف الجدران، وعلى العمل من داخل المعامل وبين قارورات المختبرات، وشعر أنه قادرٌ على الفعل الموجع والعمل المبدع فآثر الالتفات إلى التصنيع والإعداد، وتجهيز العبوات وصناعة المتفجرات، وقد علم أنّ هذا السلاح موجعٌ ومؤلمٌ، وأن العدو سيصرخ منه وسيتألم، فانطلق سابقاً الكل، ومدهشاً الجميع، ومخيفاً العدو، ودوى إسمه مع كل انفجارٍ، وصدح صوته مع كل عمليةٍ ينفذها المقاومون، وباتت متفجراته تصول وتجول في كل أرجاء فلسطين، وتترك آثارها في كل مكانٍ، حتى أرعب العدو وأخافه، وأقلقه وأزعجه، وتمنى له الموت لينجو منه ويخلص من فعله”.
وتابع قائلاً :”عرفت فيما بعد أنه يسكن قريباً من أحد طلاب مخيم جباليا بغزة، الذي كان له دورٌ كبير بعد ذلك في إيوائه وإخفائه، إذ أقام في بيته حتى يوم استشهاده، وخلال إقامته حملت زوجته وشاع خبر حملها، فجن جنون الإسرائيليين واضطربوا، وصعق لهول الخبر، إذ كيف تحمل منه زوجته وهو المطارد البعيد عن الأنظار، الذي لا يعرف أحدٌ عنه شيئاً رغم كل حملات المطاردة والبحث والتقصي.
وختم الدكتور بالقول :”أنه لشرفٌ لي عظيم أنني كنتُ أحد الذين عاصروا يحيى عياش مرحلةً قصيرةً من عمره، وفترةً من حياته، ولا غرو أنني كنتُ واحداً ممن جهلوا هذا الساكن بين جنبيه، الثائر بأصغريه، ولكني لا زلت أذكر صمته المهيب، ونظراته العميقة، وهدوءه المستفز، وكأنه كان يخفي قدراً سيكتب، وبركاناً سينفجر، فطوبى لك أبا البراء في ذكرى شهادتك السادسة والعشرين، حيث أنت اليوم”.
وأخيراً لقد نجح الإحتلال في إغتيال الشهيد القائد يحيى عياش خلال مسيرة المقاومة، لكنه فشل في استئصال ما زرعه من مقاومة باتت اليوم أقوى عوداً، وأشد صلابة، وأقرب إلى التحرير.