أميركا والقلق الوجودي

يعتقد أغلب الشعب الأميركي أن الولايات المتحدة في انحدار، يزعم دونالد ترامب أنه قادر على "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، لكن افتراض ترامب ببساطة غير صحيح، والعلاجات التي يقترحها تشكل التهديد الأكبر لأميركا.

2024-07-24

في مقال نشر مؤخراً للمفكر الأميركي نائب مساعد وزير الدفاع الأسبق، جوزيف ناي، بعنوان “العظمة الأميركية والانحدار”، قال الكاتب إن الشعب الأميركي له تاريخ طويل من القلق “الوجودي” بشأن انحدار بلاده، إلا أن المبالغة في القلق تدفع إلى اتباع سياسات تضر أكثر مما تنفع (غزو العراق واحتلاله مثلاً).

 

وإذا كان يُستدعى في وقتنا الحاضر صعود الصين كدليل على الانحدار الأميركي، إلا أن هذا الانحدار نسبي، وليس مطلقاً، إذ تتمتع الولايات المتحدة بنقاط تفوُق عديدة مقارنة بالصين، ويرجّح أن تظل الأمور على هذا الوضع.

 

وفي حين يعتقد أغلب الشعب الأميركي أن الولايات المتحدة في انحدار، يزعم دونالد ترامب أنه قادر على “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، لكن افتراض ترامب ببساطة غير صحيح، والعلاجات التي يقترحها تشكل التهديد الأكبر لأميركا.

 

يقول ناي إن الأمة الأميركية لها تاريخ طويل من القلق بشأن الانحدار؛ فبعد فترة وجيزة من تأسيس مستعمرة خليج ماساتشوسيتس في القرن السابع عشر، أعرب بعض المستوطنين البيوريتانيين عن أسفهم لخسارة مزايا سابقة. في القرن الثامن عشر، درس الآباء المؤسسون التاريخ الروماني عندما فكروا في كيفية الحفاظ على جمهورية أميركية جديدة.

 

وفي القرن التاسع عشر، لاحظ الكاتب الروائي الإنكليزي، تشارلز ديكنز، أنه إذا كان لنا أن نصدق الأميركيين، فإن بلادهم “دوماً في كساد، ودوماً في ركود، ودوماً تعيش أزمة مروعة، ولم تكن قَـط في حال غير ذلك”. وعلى غلاف مجلة صادرة عام 1979 تناولت التدهور الأميركي، ظهر تمثال الحرية ودَمـعة تتدحرج على خده.

 

لكن في حين انجذب الأميركيون لفترة طويلة إلى “توهج الماضي الذهبي”، فإن الولايات المتحدة لم تملك قط القوة التي يتخيل كُثر أنها كانت تملكها. وحتى فى ظل الموارد الطاغية، فشلت أميركا أحياناً كثيرة في الحصول على مرادها.

 

ينبغي لأولئك الذين يتصورون أن عالم اليوم أشد تعقيداً واضطراباً مما كان عليه في الماضي أن يتذكروا عاماً مثل 1956، عندما عجزت الولايات المتحدة عن منع قمع السوفيات لثورة المجر، وعندما أقدم حلفاؤنا، بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل”، على غزو قناة السويس واحتلالها.

 

وفي إعادة صياغة لعبارة الممثل الكوميدي ويل روجرز، يقول ناي: “لم تعد الهيمنة كما كانت، ولم تكن كذلك قَـط”! الحق أن فترات “الانحدار” تنبئنا عن السيكولوجية الشعبية بأكثر مما تخبرنا عن الأوضاع والتوازنات الجيوسياسية.

 

لكن من الواضح أن فكرة الانحدار تمس وتراً حساساً في السياسة الأميركية، ما يجعلها موضوعاً يمكن التعويل عليه للسياسة الحزبية. أحياناً، يُـفـضي القلق إزاء الانحدار إلى فرض سياسات اقتصادية حمائية تضر أكثر مما تنفع. وأحياناً أخرى، تؤدي فترات “الغطرسة” إلى سياسات لا تخلو من مُـغالاة مثل حرب العراق. ليس هناك فضيلة في التقليل أو المبالغة في تقدير القوة الأميركية.

 

يرى ناي أن من المهم التمييز بين الانحدار المطلق والنسبي عندما يتعلّق الأمر بالعوامل الجيوسياسية. من الناحية النسبية، كانت أميركا في انحدار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولن تتمكّن مرة أخرى أبداً من المساهمة بنصف الاقتصاد العالمي واحتكار الأسلحة النووية (التي اقتناها السوفيات في 1949).

 

لقد عززت الحرب اقتصاد الولايات المتحدة، وأضعفت اقتصاد الآخرين جميعاً، لكن مع تعافي بقية العالم، هبطت حصة أميركا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى الثلث بحلول عام 1970 (وهي حصتها ذاتها تقريباً عشية الحرب العالمية الثانية).

 

رأى الرئيس ريتشارد نيكسون في ذلك علامة على التراجع، وأخرج الدولار من معيار الذهب، لكن الدولار يظل متفوقاً بعد نصف قرن من الزمن، ولا تزال حصة أميركا فى الناتج المحلي الإجمالي العالمي تبلغ نحو الربع. كما أن “انحدار” أميركا لم يمنعها من الفوز بالحرب الباردة.

 

يتطرق ناي إلى صعود الصين كدليل على الانحدار الأميركي، ويُقِر بأن النظر بدقة إلى علاقات القوة بين الولايات المتحدة والصين يظهر أن تحولاً ملموساً حدث بالفعل لمصلحة الصين، ويعتبره تراجعاً أميركياً بـ”المعنى النسبي”، لكن بالقيمة المطلقة، لا تزال الولايات المتحدة أقوى، ويُرجِح ناي أن تظل كذلك.

 

وعندما يتعلق الأمر بتوازن القوى إجمالاً، يعدد ناي مزايا طويلة الأمد لأميركا: الجغرافيا الآمنة، والوفرة في الطاقة، ومؤسسات مالية ضخمة عابرة للحدود، والدولار كعملة احتياط دولية، ونمو السكان، وقوة العمل، والتفوق التكنولوجي، والقوة الناعمة.

 

يحذر ناي من الاستسلام لهستيريا القلق من صعود الصين أو الرضا عن الذات بشأن “ذروته”، فقد تلعب الولايات المتحدة أوراقها بشكل سيئ، وتتخلص من أوراق عالية القيمة، بما في ذلك تحالفات قوية وسيطرة على المؤسسات الدولية، ما سيشكل خطأ فادحاً. وبعيداً عن جعل أميركا عظيمة مرة أخرى، فقد يؤدي ذلك إلى إضعافها بدرجة كبيرة.

 

بالنسبة إلى ناي، يجب أن تخشى الأمة الأميركية صعود القومية الشعبوية في الداخل أكثر من خوفها من صعود الصين. الواقع أن السياسات الشعبوية، مثل “رفض” دعم أوكرانيا أو الانسحاب من حلف الأطلسي، تلحق ضرراً كبيراً بـ”القوة الناعمة” الأميركية. وإذا فاز ترامب بالرئاسة في تشرين الثاني القادم، فقد يكون هذا العام نقطة تحول في القوة الأميركية. وأخيراً، قد يكون الشعور بالانحدار مبرراً.

 

حتى لو ظلت قوة أميركا الخارجية مهيمنة، فقد تفقد الدولة ميزتها الداخلية وجاذبيتها لدى الآخرين. لقد ظلت الإمبراطورية الرومانية قائمة لفترة طويلة بعدما فقدت شكل الجمهورية. وكما عَـلَّـق بنجامين فرانكلين حول شكل الحكومة الأميركية التي أنشأها المؤسسون قائلاً: “هي جمهورية ما دام بإمكانك الحفاظ عليها”. وبقدر ما أصبحت الديمقراطية الأميركية معرضة أكثر للاستقطاب والهشاشة، فهذا التطور قد يؤدي إلى انحدار أميركا، يختم ناي.

 

شُغِل ناي بمستقبل القوة الأميركية منذ عقود، وصدر له عام 1990 كتاب “حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية”، عشية غزو العراق للكويت والرد الأميركي على الحدث بتحالف عسكري دولي (درع الصحراء)، ثم حرب تدمير شامل على العراق (عاصفة الصحراء)، لكن يتساءل كثيرون في العالم: أين هي القيادة الأميركية في حل النزاعات وصنع السلام ومعالجة قضايا العالم؟!

 

قدّم جوزيف ناي رؤيته لمآلات القوة الأميركية، مقترحاً إطاراً نظرياً يميز بين “القوة الصلبة” و”القوة الناعمة”، ورأى أن القوة الأميركية لا تتمظهر دائماً كقوة صلبة (خاضت حتى الآن أكبر قدر من الإبادة والحروب العدوانية الإمبريالية في التاريخ)، بل إن “القوة الناعمة”، من دبلوماسية وتحالفات واعتماد متبادل ونفوذ ثقافي جذاب، كفيلة باستمرار القوة الأميركية، وأميركا لا تزال القوة العالمية المهيمنة، مع غياب منافس في الأفق.

 

لا يذكر ناي أنَّ استمرار تفوق الدولار، كأحد أدوات الهيمنة، ناجم عن سيطرة أميركا على المؤسسات المالية الدولية وفرض تسعير النفط ومنتجاته بالدولار على الدول المنتجة وتهديد من يفكر في فصل تسعير النفط عن الدولار، لكن استمرار ذلك موضع شك، فالصين حالياً أكبر مستورد للنفط في تاريخ العالم، ما يمنحها نفوذاً لدى المنتجين سيفضي بالنهاية إلى نهاية التسعير بالدولار.

 

لم يتطرَّق ناي إلى النزعة الإمبريالية المستفحلة في الخبرة الأميركية والعدمية التي يعبر عنها بهوس مزمن بالحروب الأبدية. تلقى هذه المسألة اهتماماً لدى نخب أميركية تخشى عواقب النزوع الإمبراطوري وتحذر منه، وترى علّة التجربة الأميركية في المشروع الإمبراطوري الإمبريالي الكامن داخلها، والذي يمثل نقيض “القوة الناعمة”.

 

حملت الجذور الأولى للمشروع الأميركي ملامح مشروع إمبراطوري إمبريالي توسعي تدخلي بإرث دموي من الاستيطان والإبادة ضارب بجذوره، متذرعاً بمزاعم “الوعد الإلهي” و”أرض الميعاد”، مكرّساً التغول الأميركي على العالم.

 

في الواقع، أميركا تشبه إمبراطورية رومانية متهالكة تعاني إفراطاً في الإنفاق على التسلح وعدم المساواة والاستياء الداخلي. ورغم تنظير جوزيف ناي: “لم تعد القوة الناعمة كما كانت، ولم تكن كذلك قَـط”.

 

المصدر: مازن النجار/ الميادين

الاخبار ذات الصلة