د. مصطفى يوسف اللداوي
“1”
شوارع العاصمة القطرية الدوحة، المنسقة المنظمة، النظيفة الجميلة، المزدانة جوانبها بالأعشاب المنبسطة كسجادٍ أخضرٍ طويلٍ ممتد، التي لا تخالف فيها السيارات أنظمة المرور وإشارات السير، ويلتزم سائقوها القوانين والأعراف، وتكثر فيها السيارات العابرة، وتكاد تخلو من المشاة والمارة.
عماراتها شاهقة ومبانيها عالية، وهي في أغلبها جميلة، ويكاد بعضها يناطح السماء علواً، وتنعكس على واجهاتها أشعة الشمس الساطعة، وترتد على العيون بريقاً وتلفح وجوه الناس حرارةً، في أول أيام آب اللهاب، المميز بحره القائظ وشمسه الحارقة.
إنه يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في الدولة، الذي فيه تهدأ الحركة وتتوقف السيارات، وتتعطل مرافق الدولة وتتوقف المؤسسات، ويقر الناس في بيوتهم، أو يخرج بعضهم لقضاء بعض حاجاتهم أو أداء صلاة الجمعة.
بدت الدوحة في هذا اليوم، يوم الجمعة، كئيبةً حزينةً، كسيرةً مكلومةً، وكأنَّ الحزن قد جللها والأسى سكنها، وبدت أثواب الرجال البيضاء التي تعمر المساجد وتشد الرحال إليها، رغم نصاعتها سوداء قاتمة، وقد علا الوجوم الوجوه، وسكتت الألسنة إلا بالدعاء وكلمات الرجاء.
رغم أن المساجد كانت تصدح، والناس إليها كانت تسعى، وقد اغتسلت وتطهرت، وتزينت وتطيبت، لكن الحزن كان طاغياً، والألم كان بادياً، فالمدينة الهادئة الوادعة، كانت تتهيأ لتشييع شهيدٍ قد ضجت له الدنيا، وصخب من أجله العالم، وتفتحت له أبواب السماء، وتهيأت له الجنان، وهو الذي كان قبل أيامٍ قليلة يجوب شوارعها ويتنقل بين جنباتها، ويسكن فيها ويدير حركته منها، وينظم شؤون أهله ويتابع حاجات شعبه منها.
ربما لم تعتد الدوحة يوماً كهذا اليوم، ولم تعش مثله قبل اليوم، فهي قد اعتادت أن تتزين وتزدان، وتتجمل وتتهيأ، وتلبس أزهى الحلل وأجمل الثياب، لتكون قبلة القصاد، ومدينة الرواد، وعاصمة الإعلام، وأرض المونديال، ومنتدى رجال الأعمال، تجذب إليها أصحاب المشاريع والرؤى، ومؤتمرات المال والاقتصاد، والثقافة والإبداع، والحوارات واللقاءات، وغيرها من المؤتمرات التي ميزها عن غيرها، وقدمها على سواها.
لكنها اليوم كانت وكأن ثقلاً كبيراً قد طرح عليها وألقي على ظهرها، فناءت لكنها قامت، وانحنى ظهرها أسىً ولكنها تكابرت ونهضت، وقدمت نفسها ليعلو ذكرها، وعرضت ما عندها ليتبارك وجودها، فهي في حضرة الشرف وفي ركاب الكرامة، تودع رجلاً نسج الكرامة بخيوطٍ من دمٍ، وصنع العزة برؤوسٍ تشمخ نحو الشمس، وأقسم بالله عز وجل على النصر ولو كان تحت الثرى شهيداً، وكان واثقاً أن الله سيبره وسيحقق وعده، إذ كان يعرف أن من بعده سيكونون أشد على العدو وأنكى، وسيحفظون عهده، وسيوفون وعده، وسيكونون أمناء على ما ترك وأوفى، وأصبر على القتال وأقوى، وأثبت على الأرض وأبقى.
فتحت الدوحة أبوابها وجندت أبناءها، وأكثرت رمادها، ونصبت سرادقها ومدت موائدها، ومهدت للوافدين زيارتها، الذين خفوا إليها وجاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، وتهيأت ليدفن في ثراها، ويوارى تحت ترابها، رجلٌ قد زفته ملائكة السماء، ووقفت على أبوابها السبعة تنتظر وصوله وترقب عروجه، إنه شهيد القدس والأقصى، وابن غزة العزة، ومخيم الشاطئ الثورة ونبض الانتفاضة الأولى.
سأكتب لكم تباعاً، من جوار جسده الطاهر، وبالقرب من جثمانه المسجى في صحن مسجد محمد بن عبد الوهاب، وبينما كنا نصلي على روحه الطاهرة صلاة الجنازة، والحناجر تصدح والأصوات تجلجل، ومن على قبره الذي وري فيه ودفن، وقد ألقى عليه مئات المحبين نظرة الوداع، وقرأوا عليه سورة الفاتحة……
يتبع ……