300 يوم من الإبادة: أنا كالقيامة كلَّ يوم آتٍ

في خلال 300 يومٍ من حرب الإبادة، كان واضحاً أن واحداً من أهم الأهداف النفسية للحرب هو أن تتلاشى من عقل الفلسطيني، في قطاع غزة، آخر المشاهد المتبقية من "طوفان الأقصى". إنه "الوحش" الذي جَرحته "حشرة"، وفق بناءات مخيّلته.

2024-08-05

لم يكن متوقَّعاً، في أسوأ حساباتنا، أن تُغلق الحرب الإسرائيلية على القطاع يومها الـ300، على رغم أنّ الغزّيين أصحاب خبرة طويلة في الحروب. لقد كوّنوا انطباعات متعددة عن أشكال البداية والنهاية لأربع حروب وعشرين معركة، في غضون 15 عاماً فقط، وجانبت كل افتراضاتهم، بشأن مدة هذه الحرب، الصوابَ، ولا تزال. والحقّ أنّ ذلك جزءٌ من طابع المفاجآت، الذي بدت عليه هذه الحرب، إذ اكتشف الغزّيون، ومعهم العالم، أن “جيش” الاحتلال هشّ، بل غبيّ، إلى ذلك الحد!

 

دعونا نُعِد التذكير بالحدث الذي مسّ بـ”فلسفة الدولة”، والذي دعا عضو مجلس الحرب، بني غانتس، إلى القول، عبر تصريحٍ بدا بلاغياً في بداية الأمر، إن “بن غوريون قاد حرب الاستقلال الأولى، ونحن نقود حرب الاستقلال الثانية”. في تمام الساعة السادسة وعشرين دقيقة، من صباح يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أعطت قيادة كتائب القسام الإيعاز في بدء هجومٍ على الشريط الحدودي في كامل قطاع غزة. 1400 مقاوم من عناصر النخبة، لم يتجاوز عمر أكبرهم 25 عاماً، استطاعوا، في غضون 5 ساعات، تحرير مساحة 90 كيلومتراً، وتدمير فرقة كاملة من فِرَق “جيش” الاحتلال، الاثنتي عشرة، هي فرقة غزة، الأكثر اطّلاعاً وتدريباً وفهماً لميدان القطاع.

 

حتى المقاتلون، الذين تهاوت تحت أقدامهم مواقع جيش الاحتلال، واحداً تلو الآخر، لم يستوعبوا، طوال ساعات، ما الذي فعلوه في ذلك اليوم. لقد أُهين “الشرف العسكري” للجيش، ووقع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو أكبر القيادات السياسية الإسرائيلية دهاءً، على مدار تاريخ “إسرائيل” الحديث، ضحيةَ خديعة وتعمية، وضحيةَ تحكُّمٍ في حدود التفكير في مدى الفعل الذي يمكن أن تقوم به حركة “حماس”، وما تضعه على طاولتها من أولويّات، في ظل تزاحم ثنائيتَي الحُكم والمقاومة.

 

انقضت ساعات ذاك النهار تاركةً في ذهنية مجتمعَي المقاومة والاحتلال صورتين متناقضتين: المقاوم المحاصَر، محدود الإمكانات، المظلوم في الجغرافيا والديموغرافيا، والذي خُلق بالمعنى الحرفي لسطر درويش الشعري “من جَزمةٍ أفقاً”، في مقابل “مجتمع” الاحتلال المحميّ بأكبر آلة حربٍ تكنولوجية في المنطقة، والذي عايش، خلال خمس ساعات، سيناريو الزوال والاندحار الوجودي الأخير. لقد فرح المظلومون كما حقّ للفرح أن يكون، ووقف الجميع في قاعة اختبار الثمن.

 

في خلال 300 يومٍ من حرب الإبادة، كان واضحاً أن واحداً من أهم الأهداف النفسية للحرب هو أن تتلاشى من عقل الفلسطيني، في قطاع غزة، آخر المشاهد المتبقية من “طوفان الأقصى”. إنه “الوحش” الذي جَرحته “حشرة”، وفق بناءات مخيّلته، وسيوظف كل إمكاناته للتنكيل بتلك “الحشرة”. لذا أخذت حرب قادة الاحتلال شكل “أسراب الفيلة في متجر الفخار”. دمروا كل شيء. قتلوا الجميع بلا حسابات أو تفكير. هكذا أُريدَ لهذه الحرب أن تكون. ليس أن تقتل، بل أن تُشنّع في شكل القتل وطريقته. ليس أن تهدم بناءً، وإنما أن تسوّي مدينة أو مناطق كاملة أرضاً. صار مفهوماً، بعد كل مجزرة يذهب ضحيتها المئات، بل بضع مئات من عائلة واحدة، أن القتل في ذاته هدفٌ، وأن جيش “إسرائيل” يعمد إلى وشم ندبةِ له في قلب كل غزيّ.

 

وبدا، أيضاً، أنّ المطلوب أن يتحول السابع من تشرين الأول/أكتوبر، في ذهن الفلسطيني في القطاع، إلى اليوم الذي بدأت فيه الكارثة والمصيبة، لا اليوم الذي أذلّ فيه جيشَهم وقادة فِرَقهم، واقتيدَ فيه الألوية وأصحاب الرتب العسكرية السامية أسرىً، وهم في الملابس الداخلية، على أيدي شبان لم يطرقوا باب العشرين من العمر. وفي طريق ذلك، جرّب الأهل، بل جرّبنا جميعاً، كل أنواع الموت، بالقنابل الأميركية، التي تزن الواحدة منها 1000 كيلوغرام؛ بقذائف الدبابات العشوائية؛ بالقذائف الحارقة والدخانية؛ بالأحزمة النارية، التي تنفذها 100 طائرة، على نحو متزامن، على بلدة أو مخيم أو حي واحد؛ ثم جربنا الموت جوعاً ومرضاً وعطشاً، ثم قهراً عبر النزوح للمرة العشرين بعد المئة.

 

لقد تحولت البلاد إلى مقبرة، وفقدت أغلبية أهل القطاع منازلها ومصادر رزقها. عاد الغزّيون، جميعاً، في قفزة عكسية واحدة، من شكل الحياة الحضاري لعام 2024، إلى الحياة البدائية، المعهودة قبل مئة عام من اليوم، من دون كهرباء أو اتصالات أو وقود أو إنترنت، ومن دون مأوىً، ومن دون تعليم ولا مؤسسات صحية ولا مستقبل. كان واجباً أن تتزاحم كل أنواع المصائب، دفعةً واحدة، كي لا تبقى في ذهن واحدٍ منا صورةُ أولادنا وهم يهبطون عليهم من السماء.

 

لكن، في مقابل ذلك كله، سيكون من المهم التذكير بأن أطول حروب “إسرائيل”، على الإطلاق، تفشل، في شهرها العاشر، عن تحقيق صورة الانتصار الناجز، أو الهزيمة المطلقة، أو الاستسلام الذي لا قيامة بعده، وأن “زُمَراً” من الشبان قاتلت دبابات “إسرائيل” وجنودها، من مسافة صفر، إلى الحد الذي أقرّ فيه الجيش، الذي حشد ألفي دبابة و400 ألف جندي عند حدود القطاع، بأنه يعاني أزمة حادة في عديد الآليات الصالحة للقتال، وعديد الجنود المقاتلين القادرين على المواجهة.

 

بعد 300 يوم من الحرب، ناهز فيها عدد الشهداء 40 ألفاً، والجرحى 90 ألفاً، ودمّر “جيش” الاحتلال، ولا يزال، نحو 70% من الكتلة العمرانية في غزة، والمرافق الصحية والتعليمية والتجارية كافةً، يشفّ الغروب، من علوّ، عن مدينة من الركام، يمشي الناس بين منازلها المدمرة، يسكنون ما صلح منها، ويَخُطُّون على بقايا الجدران: “وعد بنعمرها”؛ يُعيدون بعث الحياة في كل منطقة يظن الاحتلال أنه قضى على أي فرصة للعيش فيها؛ يُرمّمون بقايا أرواحهم المتعبة، وقد أضحت أجسادهم خزانة لكل ظلم الأرض، يُمَنّون أنفسهم بيوم تشرق عليهم فيه شمس يسمعون فيه صوت العصافير.

يوسف فارس