بالنسبة إلى الحاجة أمينة حمود، فؤاد شكر (السيد محسن) «صديق ابني محمد» نعمة يوسف الذي استشهد قبل نحو 40 عاماً. تتوجه إلى غرفة الجلوس وتشير إلى زاوية فيها: «الشهيد فؤاد وابني محمد كانا يجتمعان هنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وعندما كنت أدخل عليهما بإبريق الشاي، يتوقفان عن الكلام». أما بالنسبة إلى سكان الأوزاعي، فهو «ابن المنطقة» الذي كانوا متأكدين أنه «مسؤول كبير في الحزب»، لكنّ أحداً لم يكن يعرف أنه القائد العسكري الأول في المقاومة.
بعد أسبوع على رحيله، تملأ صور القائد الجهادي الكبير أزقة الأوزاعي التي يتحدث أبناؤها عن وفائه بـ«عهد العَشرة»، وهو العهد الذي قطعه عشرة شبان في مسجد الأوزاعي إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بـ««مواجهة العدو حتى الشهادة». تسعة منهم وفوا بالعهد: سمير مطوط، حسن شكر، جعفر المولى، محمد حسونة، أحمد شمص، محمد نعمة يوسف، علي زين الدين، أسعد برو، ومحمود محمد يوسف، فيما بقي عاشرهم مجهولاً إلى أن أُعلنت شهادة «السيد محسن».
تقول ابنته خديجة إن علاقة خاصة جمعته بالأوزاعي، «مسقط قلبه» كما تصفها، إذ سكنها عندما كان في الثامنة، وعاش طفولته وشبابه فيها. غادر الشهيد شكر الأوزاعي قبل 36 عاماً، وتنقّل بين عشرات المنازل التي سكنها في بيروت والجنوب والبقاع، لكن الأوزاعي ظلّت تسكنه بأرضها وناسها وشاطئها وبقيت لها مكانة خاصة لديه، و«كنت ألاحظ ذلك من تغيّر نبرة صوته ولهفته عندما يذكرها»، تقول خديجة، و«كنت أرى شخصاً ثانياً كلما رافقته إلى منزل جدتي هناك. تحيته للناس، حديثه معهم، وحتى تعابير وجهه كلها تشعرك أنه في بيته. كان يحفظ المنطقة عن ظهر قلب ويتنقل بخفّة بين أزقتها ودهاليزها». لذلك، ورغم المحاذير الأمنية، حافظ على تواصله معهم، وظلّ يزورهم بين حين وآخر ويؤدي الواجبات الاجتماعية كتقديم عزاء أو زيارة مريض. «لم يبتعد السيد محسن أبداً وظلّ يطلّ علينا ولو بظهور سريع»، يقول أحد عارفيه، وهو حتى خلال «طوفان الأقصى» شارك في مراسم دفن ابن أخيه الشهيد علي جمال شكر في كانون الثاني الماضي، وتقبّله التعازي في حسينية الأوزاعي، وكان يردّ على التحذيرات الأمنية بأن «المسلّم الله». وتعزو خديجة هذه المرونة في الحركة في الأوزاعي تحديداً إلى «ثقة الشهيد بأبناء المنطقة وشعوره بالأمان بينهم». وهو، رغم كثرة المساجد حول أمكنة إقامته في الضاحية الجنوبية، واظب على زيارة مسجد الأوزاعي في المناسبات الدينية، والمشاركة في إحياء ليالي القدر وزيارة الشهداء في «روضة الهادي» في مقبرة الأوزاعي.
هنا «يعرفه الجميع، كباراً وصغاراً، إما شخصياً أو من خلال الحديث عنه، لذلك شاركوا جميعاً في تشييعه»، يقول رجل سبعيني يجلس أمام محل للمفروشات في الأوزاعي. ولذلك، «عزّ علينا ألا يكون ضريحه في روضة الهادي بجوار رفاقه الشهداء». وتلفت خديجة إلى أن الشهيد ردّد باستمرار في الثمانينيات أنه يرغب في أن يُدفن بجوار رفاقه في الأوزاعي. لكنه في الآونة الأخيرة فوّض السيد حسن نصرالله اختيار مكان دفنه، ووثّق ذلك في وصيته بالقول: هو ولي أمري ويحدد المكان المناسب».
يتناقل أهالي الأوزاعي قصصاً كثيرة عن الشاب الطويل القامة، الشديد الحماسة، الذي لا يعرف الخوف طريقاً إلى قلبه. يقول صديقه أبو علي: «كان يهوى السباحة، هواية الفقراء ومن يجاورون البحر. وكان ملاكماً قوياً، نتفادى مواجهته أثناء التدريب لأن أي جولة معه لا تستغرق أكثر من دقيقة، وفي أحيان كثيرة كنا نصرخ: خفّف الضربة يا زلمة». ويضيف: «في شبابه كنا نناديه «أبو البنات» لاستفزازه قبل أن يَرزق ابنَه محمّد، لكن لم يكن ذلك يستفزّه إطلاقاً، بل كان يوزّع الحلوى كلما رُزق فتاة».
إلى الجانب العسكري، كان السيد محسن ينشغل بهموم الناس والمشاكل الشخصية للشباب الذين يعملون معه، وقضايا أهل منطقته، و«كان لا يوفّر جلسة أو جمعة ليستدرجنا لمعرفة أوضاع الناس ومشاكلهم، ولأنه عايش المعاناة الشعبية في فترة الثمانينيات بسبب انقطاع السلع الأساسية، لا يغفل السؤال عن هذه المسائل في وقت السلم والحرب».
في الأوزاعي، يتناقل الجميع قصة البطل الحقيقي الذي خطّط ونفّذ في معركة خلدة وأسر أول دبابة إسرائيلية. يحفظون القصة عن ظهر غيب: «عندما وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى خلدة، خاطب الجموع التي تجمهرت مذهولة من الاجتياح: الحسين في خلدة، ومن يردْ نصرته فليلتحق بي»، والتحق به عدد من الشباب، فيما ترك ستة شبّان عند باب الأوزاعي بعدما أوصاهم: «نحن ذاهبون ولن نعود، عندما يصل العدو، قاتلوه حتى آخر رمق، فإما أن تمنعوه من الدخول أو أن تستشهدوا». بعدما استولى ورفاقه على دبابة إسرائيلية في خلدة، سألته صحافية: «من أنتم»؟ أجابها: «نحن الخمينيون»، ولم يكن ذلك مصطلحاً شائعاً في ذلك الوقت. «لم نسمع عنكم من قبل»، قالت له، فردّ عليها: «استعدّي، لأنّك ستسمعين عنا كثيراً».