شهادات عن “الشهادة”

لقد كان الكيان منذ البداية ضعيفًا، إلا أننا كنا أكثر ضعفًا وتشتتًا وضياعًا، فرأينا في انعكاس صورة عجزنا كيانًا متفوقًا وقادرًا ومخيفًا، لم يكن الكيان ليستمر 76 عامًا لولا خطايانا نحن، و"الحلول الوسط" التي تمسكت بها الزعامات العربية قبل العام 1982.

2024-08-06

هذا المقال ليس محاولة للكتابة عن الشهيد القائد فؤاد شكر، أو ذكر مآثره وأمجاده في ساحات الجهاد، ولا هو فتح لمناقشة عن تأثير ارتقائه في حزب الله، فقد تربّينا في مدرسة الحزب وسماحة الأمين على أن هذه الدماء الزكية تسقط بيد الله، وتنمو وتثمر. على المستوى الشخصي؛ إنّي مسلم يؤمن قطعًا ويقينًا بقوله تعالى: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)” –آل عمران- فالعزيز الجبار قد منح الشهداء مرتبة البقاء، البقاء بمعناه المادي والمجرد، هم أحياء ويرزقون وفرحون ويستبشرون، وكلها تصف أحوال نشاط وحركة وتأثر، أي تشترط بداهة الوعي والوجود.

 

قد تفتح شهادة القائد الجهادي الكبير فؤاد شكر الباب واسعًا، من دون جهد، للحديث عن أحد فرسان معركة “طوفان الأقصى” المباركة، القائد الحاج عماد مغنية، وبالرغم من ابتعادنا عن تاريخ استشهاده بـ 16 عامًا ونيف، إلا أنّ وهج حضوره الكثيف وشدة ارتباطه مع قضية الحق وعمق وصلابة واستمرار التغيير الهائل الذي حققه – للمرة الأولى- في الصراع العربي- الصهيوني، يجعل منه بطلًا إلى هذه الساعة تحديدًا، وهو بطل قبلها وبطل بعدها.

 

كان للقائد مغنية إستراتيجية ثابتة بخصوص هدف المقاومة، “الهدف واضح ومحدد ودقيق، إزالة “إسرائيل” من الوجود”، وضع الأمة أمام خيارها المصيري “إما نحن وإما هم”. بالطبع الهدف بعيد وعظيم، يماثل عقلية صاحبه وقناعاته وسمو روحه، وكان خارجًا عن نطاق المألوف، وموغلًا في الابتعاد عن أي إطار متصور، العالم العربي كله يعجز عن قول كلمة فلسطين، بينما مغنية، منذ بداية الطريق وأكثر اللحظات إظلامًا في التاريخ المعاصر كان يبني مستقبلًا ينتفي فيه أي وجود للكيان، بكلمات أبسط : كان الحل الإيماني الجذري هو إزالة الغدة السرطانية من جسد الأمة، تمامًا ونهائيًا.

 

 

شهادات عن "الشهادة"

 

الشهادة التي مثلتها معركة “طوفان الأقصى” على إستراتيجية الحاج رضوان، والتي كانت تعدّ الكيان خطرًا على مصر بقدر ما هو خطر على لبنان وفلسطين وسورية، وأن الواجب هو حشد كل إمكانات الأمة وكسر روحية الهزيمة التي سيقت إليها الجماهير العربية، فإذ بنا نكتشف أن بيت العنكبوت كان هشًا للغاية، لم يصمد أمام ثلة من شرفاء الأمة. واليوم –اليوم بالذات- تحشد واشنطن الأساطيل والطائرات والجيوش لحمايته من رد جبهة المقاومة. لقد كان الكيان منذ البداية ضعيفًا، إلا أننا كنا أكثر ضعفًا وتشتتًا وضياعًا، فرأينا في انعكاس صورة عجزنا كيانًا متفوقًا وقادرًا ومخيفًا، لم يكن الكيان ليستمر 76 عامًا لولا خطايانا نحن، و”الحلول الوسط” التي تمسكت بها الزعامات العربية قبل العام 1982.

 

الشاهد الثاني على فكر الحاج عماد الذي سبق حاضره ومستقبلنا، يأتي من التاريخ، فالكيان قد نُقل على سفن الشحن ليستنسخ صورة “الجيتو” في أوروبا، لكن في قلب العالم العربي. وفكرة قيام الكيان بالأصل تعود إلى نابليون بونابرت الذي رأى مبكرًا أهمية فصل العالم العربي عبر كسر الفقرة الوسيطة بين جغرافيته، ليقطع التواصل بين مصر وبين الشام والعراق. وهي الحواضر التي تشكّل قلب الأمة العربية النابض، ليعيش كأسفنجة تمتص الطاقة العربية وتبدد الموارد وتشتت الجهود وتزرع الفتن والحروب. ومع أنّ مغنية لم يكن أول من اكتشف هذه الرؤية، أنه لا آمان لأي بلد عربي وحده في مواجهة هذه القاعدة الأميركية المتقدمة، لكنه أول من قدم النموذج العملي والواقعي المبهر لقهر هذا الكيان عسكريًا وإهانته وإذلاله، وبدل المرة مرات. كما أن رؤيته الجلية كانت تتضمن أن المصلحة المجردة – قبل شرف الانتماء- تحتم على العرب أن يتوحدوا في وجه هذا الخطر، هذا هو حكم المستقبل قبل أن يكون درس التاريخ.

 

المصدر: أحمد فؤاد/ العهد