المشهد الأوّل: الضيف
ضيوفُنا – نحن الإيرانيون – بمنزلة أرواحنا. كنتُ أتكئ على الحائط، وأستمع إلى صرخات المشيّعين الغاضبين الذين ملؤوا شارع الثورة. رجلٌ في منتصف العمر، ذو وجهٍ لوّحته الشمس، ويدين متشققتين من عملٍ كادح، يحمل صورة الشهيد “هنية” ويمشي ساخطًا.
يسهلُ فهمُ شعور الغضب وانحباس الغصّة من خطوط جبهته العابسة. يُسرع ليلتحق بحشود المشيّعين. وقبل أن يصل؛ يرفع صوته بهدير الهتافات، ويُردِّد: «الموت لإسرائيل! الموت لإسرائيل!». يهزّ قبضتيه بقوّة يُستشفّ منها أنه عندما سمع نبأ استشهاد ضيفه في طهران؛ راح يضرب الحائط بيديه مرارًا وتكرارًا، ويصرخ من شدة الغضب. أعتقد أنه لولا الكبرياء الرجولي الذي يميزه، لكان قد ذرف الدموع من الألم الذي كان يتحمّله.
تذكّرتُ جدّي الذي كان مزارعًا، وقد لوّحت الشمس وجهه أيضًا. كان مستعدًّا لأن يضحّي بروحه من أجل الضيف الذي يأتي إلى منزله الريفي. ذات مرّة، سمعتُ أنه لم ينم حتى الصباح، وظلّ جالسًا على ركبتيه، كي يتّسع بيته الصغير، وينام ضيوفه على نحوٍ مريح! وتخيّلتُ أنه لو كان هناك، ورأى ضيفَه وقد سال الدم من أنفه، ذلك الضيف الذي يمثّل شعبًا مقاومًا مثقلًا بالآلام، لجاشَ صدره بالانفعال على هذا النحو أيضًا. وأعتقد أنه لو كان هنا، لرأيته جالسًا عند زاوية شارع الثورة، وهو يجهش بالبكاء، ذلك البكاء الرجولي الذي يتلظى له الفؤاد.
المشهد الثاني: العطش آيةُ الصمود
كان هجير الطقس يعمّ المكان، والحرارة شديدة، وكان رأسي منكّسًا وأنا أفكر في رسالة “يحيى السنوار” الذي كتب ذات مرّة أن «غزة هي كربلاء أخرى». أدرتُ رأسي لأرى جثمان رفيق دربه، وشعرتُ أنني قريبة من القائد السنوار. فجأةً، عدتُ إلى وعيي؛ ورأيتُ جثمان قائدٍ من أهل السنّة محمولًا على أكتاف الشيعة بعزّة كبيرة تُذهل الإنسان.
ضحكتُ؛ من غباء الذين يستخدمون المذهبَ ذريعةً لتفريق أمّة خاتم الرسل(ص).
«الحرية» هي التي جمعَت هؤلاء الحشود كلهم. حريةُ ذاك الذي قُتل في أرض كربلاء، والذي ذُبح عطشانًا، كي لا تخضع أمّة جدّه للذلّة اليوم، بل «تصمد».. ذلّة تُسمّى اليوم “إسرائيل”.
جالت في ذاكرتي صور أمّهات الشهداء: أمٌّ من مدينة مشهد، وأمٌّ من غزة. كلاهما تنتميان إلى جغرافيا تنبض بحرية المقاومة، ومثلهما كثير. عندما رأين جثامين أبنائهنّ، قلن: «إنت مش أحسن من الحسن والحسين(عليهما السلام)…». تختلف لغة الكلام بين العربية العامية والفارسية؛ لكنّ الصرخة واحدة.
حين شعرتُ بالعطش، وقعَتْ عيناي على سيارة “تويوتا” بيضاء تقف بجواري، وفي صندوقها الخلفي بضع قوارير من المياه. وعندما حاولتُ تحريك يدي نحو القوارير، لأحصل على واحدةٍ يبلّ ماؤها حلقي، ويخفف من وهج حرارة رأسي ووجهي، هبّت نسمة حارّة، ولفحَت ريحُها العلمَ الفلسطيني الذي كان فوق كتف فتىً يسير أمامي، فمسحَ العلمُ وجهي.
أطبقتُ عينيّ بلا إرادة، وعندما فتحتهما، رأيتُ العلم بألوانه الخضراء والحمراء يرفرف أمام عينيّ، وقد شكّل صورةً واحدة مع قوارير المياه. فأدركتُ: كان ذاك النسيم الذي ألقى العلم على وجهي بمنزلة صفعة ناعمة، ذكّرتني بنساء غزّة وأطفالها، وهم يكابدون العطش. وتراءت لي مشاهد أولئك المجاهدين ذوي السراويل الفلسطينية المخططة، وهم يركضون في شوارع رفح وخان يونس وغزّة بنعال ممزّقة، بينما نيران أسلحتهم ترسم خطوطًا من لهبٍ عصيّ على الانطفاء! لقد انسلختُ من طهران لبرهة من الزمن، وإذْ بي، في جزء من الثانية، صرتُ عند أنقاض غزة المدمّرة بالقصف.
في مخيلتي، كنتُ أُهدِّئ من روع أطفال غزة العِطاش بين أحضاني. كنتُ جاثية أمام أمّ جفّ حليبها من قلّة الماء والطعام، تُهدهد طفلها الجائع، وتحتضن جثمان طفلها الآخر، وهي تنزوي حزينةً في زاوية بمستشفى الشفاء. كنتُ أشعر أن دموعي تبلل ثيابي وأنا أرقب ذلك المشهد. كنتُ أركض خلف أولئك المجاهدين ذوي السراويل المخططة… فجأة، أتى صوت وأيقظني: «يا الله، يا أخت»!
لا أعرف كم دقيقة مرّت منذ أن تسمّرت قدماي في مكاني، بين قوارير المياه وعلم فلسطين، غارقةً في مخيلتي… لم أشرب من تلك القوارير، ولم أُطفئ عطشي من مياهها حتى انتهاء مراسم التشييع. كانت يداي مضمّختين بالدماء؛ دماء جثمان ذلك الطفل في مستشفى الشفاء، الذي أخذتُه من والدته كي لا تموت من غصّتها وهي تعاينه. لا يمكن شرب الماء بأيدٍ مضمّخة بالدماء…
المشهد الثالث: المرأة، الدموع، الغضب
النساء مخلوقات عجيبة. مزيجٌ من الماء والنار، والنعومة والصلابة، والحزن والغضب. ولذلك، فإن ردّ فعل المرأة إزاء حادثة ما يبدو أكثر غرابة من نظيره عند الرجل.
كانت إحداهنّ تمشي أمامي. كنتُ أشاهدها وهي تقف من وقت إلى آخر، والغصّة تخنقها، لدرجة أنني كنتُ أشعر بقلبها وهو يعتصر.
في بعض الأحيان، تكون دموع النساء حارقة جدًّا، إلى الحدّ الذي يشعر المرء أن بشرة المرأة قد تحترق إذا انهمرت هذه الدموع على خدّيها. شعرتُ بأن دموعها كانت من هذا النوع. وكان ذلك واضحًا من خلال انفعالها الجياش. أنا امرأة، وأفهم حالها جيدًا.
خلال مسيرها، كانت تزأر بنحوٍ حماسي، وتهتف بصوت عالٍ، لدرجة أن الرجال لم يتمكنوا من الوصول إلى مستوى صوتها. وكزتُها برفقٍ على كتفها، فالتفتت بسرعة، وحدّقَت في عينيّ. كانت امرأة جميلة المُحيّا، وخاصةً عينيها. كانتا بلون زيتي، مع حواف غامقة، ونظرة حازمة. تمامًا مثل الفلسطينيين: جميلة وحازمة. وعندما وصلنا إلى الحشود، تبسّمتُ في وجهها، وقلت: «ليتنا كنّا مع الأمّهات الفلسطينيات… أليس كذلك؟». هوَت إلى حضني، وبدأت بالبكاء. كنتُ أشعر أنني أسمع صوت دموعها بأذني، وأن عباءتي تكاد تحترق من حرارة بكائها وحسرة دموعها.
عندما هدأَتْ، أخبرتُها أن ليَ عمّة بعمر الستين تقريبًا، شهدتْ بداية «طوفان الأقصى»، وعلى الرغم من المسيرات التي قامت في كل المدن الكبرى دعمًا للمقاومة الفلسطينية؛ لكنّها أصرّتْ على المشاركة في مسيرة طهران، ولا شيء دون ذلك! كان أصهرتها يُقابلون إصرارها على الذهاب إلى طهران بالقول: «هناك مسيرة كبيرة في مدينتنا أيضًا، فلماذا نذهب إلى طهران؟!». أخيرًا، تمتمَت وقالت: «ربما هناك سيسجّلون الأسماء». سألوها: «ولأيّ غرض يسجّلون الأسماء؟»، قالت: «قد يستدعي الأمر يومًا ما، فيتصلون بنا، ويطلبون منّا أن نذهب». سألوها: «إلى أين؟ وماذا عساكِ أن تفعلي في هذا العمر؟!». أجابت بنحو حازم: «حسنًا، أعرف الطبخ».
كنّا الآن نسير مع الحشود. قالت المرأة بعد أن استمعت إلى قصّة عمّتي: «لو أنّ النساء في فلسطين خلال هذه السنوات التي قاربت الثمانين، وهنتْ أكتافهنّ للحظة، ونفد صبرهنّ من استشهاد أحبائهنّ، ومن النزوح والدماء والدخان والبارود، لكنّا الآن نكتب أسماء الأراضي الساحلية للبحر الأبيض المتوسط ومدنها باللغة العبرية! هل لديكِ شكّ في هذا؟». أومأتُ برأسي تأييدًا، ثم اختفَت المرأة وسط الحشود، وهي تهتف بصوتها العالي، وقبضتها المرفوعة.
المشهد الأخير: العدو الخائب
في صباح اليوم الذي فُجعنا فيه باستشهاد “هنية”، كنتُ جالسة مع بعض أصدقائي، نُحلّل -بكل ثقة- آثار هذا الاغتيال ورسائله، وأهداف الكيان المجرم منه، وأجمعْنا على أنّ الكيان الصهيوني قد استهدف بهذا الاغتيال قلب وحدة جبهة المقاومة. ثم شاهدتُ رسائل العزّة من أسرة “هنية”، فضحكتُ من تحليلاتنا عندما كنتُ أسير وسط التشييع المليوني.
لو قُيّض لجبهة المقاومة أن تنقسم جراء هذه الأعمال الخبيثة، لما كانت تُذيق العدو الصهيوني الويلات في جبهات عدّة حتى اليوم! أراد هؤلاء الجبناء أن يستهدفوا “هنية” في قلب طهران، من أجل ضخّ حياة مؤقتة في جسدهم المُحتضر، ولكي يقولوا -في اللحظات الأخيرة- أنهم يستطيعون أيضًا توجيه ضربة إلى عدوهم.
لكنهم يخسؤون… فأبناء الأمّة المقاومة تربطهم أواصر دماء منذ زمن بعيد: دماء الفلسطينيين في إيران، ودماء العراقيين في سوريا، ودماء الإيرانيين في لبنان…
ثمة شاب يحمل راية المقاومة بكل قلبه وروحه، وكأنّه يحمل عروسه الجميلة بين ذراعيه ليتباهى بها، فيغبطه الناظرون على سعادته. كان يرفع الراية بفخر، متشبّثاً بها بيدين تمتدان نحو السماء على نحوٍ مستقيم وثابت. فهل يمكن سحب جوهر المقاومة من هذه الأيدي؟ هيهات…
لقد آن أوان مشهد أمّة المقاومة وصفعة الثأر… بيننا وبينهم الأيام والليالي والميدان!