مظاهر الابتهاج التي رافقت عمليات اقتحام المحتجين في بنغلادش لقصر رئيسة الوزراء حسينة واجد، بعد إعلان استقالتها وفرارها إلى الهند على متن مروحية عسكرية، أثارت آمال الشارع السياسي البنغالي في تغيير يطوي صفحة عقود من الصراع السياسي طالما وضع هذا البلد في نفق من الانقلابات والأزمات منذ اليوم الأول لنيلها الاستقلال عن باكستان العام 1976.
شهران من الاحتجاجات التي أطلقها طلاب الجامعات بمظاهرات سليمة للتعبير عن رفضهم نظام “الكوتا” الوظيفي الذي كان الحزب الحاكم يمنح فيه النسبة الأكبر من الوظائف الحكومية لأبناء وأحفاد شهداء حرب الاستقلال عن باكستان، كانت كافية لإحياء تركة الصراعات السياسية الثأرية التي ظلت تتفاعل بداخل الشارع البنغالي لعقود، خصوصا بعد أعمال العنف التي سادت معظم أقاليم الدولة وأوقعت أكثر من 400 قتيل ومئات الجرحى في واحدة من أكثر أعمال العنف التي تشهدها البلاد منذ 5 عقود.
وبدأت حركة الاحتجاجات من أوساط طلاب الجامعات في يونيو الماضي عندما شكلوا حركة “ طلاب ضد التمييز” وشرعوا بتظاهرات سلمية عُرفت باسم “ “احتجاجات الحصص” وسرعان ما انتشرت في بقية المدن لمطالبة الحكومة بإلغاء نظام “الكوتا” الوظيفي.
وبعد أكثر من 50 عاما على العمل بهذا النظام وجدت الشيحة حسينة واجد نفسها أمام مأزق سياسي عميق بعد أن ظلت تؤيده وتدافع عن بقائه خلال تقلدها منصب رئيس الحكومة لأكثر من 20 عاما.
تأسس هذا النظام قبل خمسة عقود على يد والدها رئيس الوزراء آنذاك مجيب الرحمن، الذي رأى فيه نوعا من التكريم لقدامى المحاربين وذويهم من خلال توفير فرص العمل لهم في ذلك الوقت، وعملت الشيخة حسينة واجد على بقائه بالقوة متجاوزة مطالب حقوقية عادلة لنحو 18 مليون شاب بنغلاديشي يطالبون سنويا بالحصول على وظائف تنقذهم من حالة البطالة التي سجلت أرقاما مرتفعة للغاية في أوساط خريجي الجامعات قياسا بأقرانهم الأقل تعليماً.
فشلت حسينة واجد وحكومتها بإيجاد حلول لهذه المشكلة، بعد أن أدى تقادم النظام إلى فقدانه قيمته السياسية مع تقلص عدد أبناء وأحفاد الشهداء إلى أقل من 1% من السكان البالغ عددهم 170 مليون نسمة وظهور أجيال جديدة لم تشهد الحرب وتطالب بحقوقها بالحصول على فرص وظيفية بعدما تحول نظام “الكوتا” إلى نشاط سياسي تعبوي يحصد ثماره مؤيدو وأنصار حزب “رابطة الاستقلال” الحاكم.
تداعيات خارج السيطرة
مع الإقرار بأن حركة الاحتجاجات الطلابية كانت مسيسة وتديرها أحزاب معارضة عبر قطاعاتها الطلابية في الجامعات إلا أن العنف المفرط الذي قابلت فيه حكومة الشيخة حسينة حركة الاحتجاجات بما رافقها من عمليات اعتقال ودهم المنازل وعسكرة للحياة المدنية واعتداء على المحتجين بالذخيرة الحية وقطع خدمات الانترنت كانت سببا في تطورها إلى أعمال عنف انخرط فيها كثيرون من خارج القطاعات الطلابية فيما ظلت الشيخة حسينة مصرة على قمعها بالقوة باعتبار المحتجين “إرهابيون يسعون إلى زعزعة استقرار الأمة”، الأمر الذي فاقم من حالة الاحتقان لدى أحزاب المعارضة التي اتهمت الشيخة حسينة بأنها تحكم بالحديد والنار وتحويلها بنغلادش إلى أرض يسكنها الخوف.
هذه التداعيات لم تكن الوحيدة التي قادت إلى احتجاجات وأعمال العنف، فقد جاءت في الواقع كمحصلة لتراكم حالة الاحتقان السياسي نتيجة تنظيم الحزب الحاكم بزعامة الشيخة حسينة، عمليتين انتخابيتين تلتا فوزها في انتخابات 2009 دون وجود معارضة حقيقية من الأحزاب المعارضة التي قاطعت الانتخابات، في ظل تصاعد الاتهامات لها ولحزبها بإساءة استخدام موارد الدولة لترسيخ قبضتها على السلطة والقضاء على المعارضة، بطرق تشمل القتل والاعتقال والإخفاء خارج نطاق القانون.
هذا الوضع ذكّر الشارع البنغالي بما كان يحدث سابقا في عهد رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء التي أدارت في العام 1996 عملية انتخابية غير نزيهة قاطعتها أحزاب المعارضة، وساعدت الشيخة حسينة وحزبها على قيادة احتجاجات شعبية ضدها أفضت إلى انتخابات مبكرة حصدت نتائجها الشيخة حسينة التي صعدت إلى رئاسة الحكومة بعد حصول حزبها على أغلبية في البرلمان.
وقد أفضت هذه التراكمات في النهاية إلى تقلص حجم التأييد الشعبي لحزب “ رابطة الاستقلال” بزعامة الشيخة حسينة، في تحول وصل إلى ذروته لدى قوات الجيش والشرطة التي كانت لجأت في بداية الاحتجاجات إلى سياسة القمع المفرط للمحتجين ثم توقفت كليا عن التدخل فيما اُعتبر رسالة إدانة للشيخة حسينة التي وجدت نفسها في مواجهة طوفان من الرفض الشعبي والرسمي دفعها في النهاية إلى الاستقالة والهروب إلى الهند.
عوامل خارجية
النهاية التراجيدية التي سطرتها الشيخة حسينة واجد لحياتها السياسية، لم تشبه في الواقع بداياتها وتاريخها السياسي فهي عرفت بكونها يسارية ثورية مؤيدة للحياة الديموقراطية حيث قادت منذ ظهورها الأول في المشهد السياسي كزعيمة طلابية في جامعة داكا حركة مناهضة لنظام الديكتاتور حسين إرشاد ومدافعة عن الديموقراطية والحريات، وهو الدور الذي قادها لتزعم حزب “رابطة الاستقلال” الذي تزعمه والدها قبل اغتياله، وهو المنصب الذي أوصلها تاليا إلى منصب رئيس الوزراء لأربع دورات انتخابية قبل السقوط الكبير في انتخابات يناير 2024.
والتلاعب بالعملية الانتخابية الذي طالما اتهمت فيه المعارضة الشيخة حسينة واجد وحزبها “ رابطة الاستقلال” لم يكن السبب الوحيد فسائر الدورات الانتخابية التي نظمت في العقود الثلاثة الماضية، لم تكن في معزل عن التدخلات الخارجية من جانب الهند وباكستان اللتين أفلحتا في تأسيس تنظيمات سياسية موالية ومتناحرة فيما بينها فرضت سيطرة كاملة على المشهد السياسي والانتخابي لعقود.
وفي حين ظلت الشيخة حسينة وحزبها يُتهمون بالخضوع للهند طوال فترة حكمها الممتد لـ 20 سنة، كان الحزب الوطني المعارض ورئيسته خالدة ضياء، يُتهمون بموالاة باكستان، خصوصا بعد تحالف الحزب مع الجماعة الإسلامية التي لعبت دورا مهما في وصول خالدة ضياء إلى منصب رئيس الحكومة، قبل أن يتم حظرها وإغلاق مقارها خلال فترة حكم الشيخة حسينة واجد.
ورغم النجاحات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها الشيخة حسينة خلال سنوات حكمها وسجلت خلالها تراجعا في معدلات الفقر وارتفاع متوسط نمو الناتج المحلي السنوي الإجمالي وانتعاش القطاعات الصناعية التي جعلت بنغلادش التي كانت من أفقر بلدان آسيا واحدة من النمور الاقتصادية الصاعدة في قارة آسيا، إلا أن هذه النجاحات الكبيرة لم تستطع تجاوز حالة الاحتقان الشعبي التي خلفتها سياسة التمييز الوظيفي.
ذلك أن الإنجازات الاقتصادية المحققة لم تترجم على أرض الواقع بشكل عادل ولا سيما في أوساط خريجي الجامعات، ففي حين كان اقتصاد بنغلادش يتقدم ضمن أسرع الاقتصاديات نموا في العالم إلا أن 40% من الشعب البنغالي الواقعة أعمارهم بين 18 ـ 27 عاما لم يحصلوا على تعليم أو يعانون من البطالة بعد أن منحت توجهات الحزب الحاكم فئات اجتماعية معينة لا تتجاوز نسبتها 1% من عدد السكان أكثر من نصف وظائف قطاع الخدمة المدنية ناهيك عن الامتيازات الوظيفية والمناصب وامتيازات فرص الحصول على التعليم في ظل الفساد والمحسوبية العاصفين بأكثر قطاعات الدولة.
التركة الثقيلة
الثابت أنه رغم مرور ثلاثة عقود على أول انتخابات رئاسية في بنغلادش فإن التجربة الديموقراطية لا تزال حتى اليوم ناشئة ويعترضها إرث كبير من التباينات والانقسامات التي جعلت منها ديموقراطية شكلية.
ومنذ انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971، شهدت البلاد عدة انقلابات عسكرية بعد مقتل مؤسس الدولة الشيخ مجيب الرحمن، ولم تعرف بنغلادش تداولا سلميا للسلطة عبر الانتخابات إلا في العام 1991 بعد الإطاحة بنظام الجنرال حسين إرشاد، في حين ظلت البلاد أسيرة طوق هائل من الاستقطاب الحاد والثأر السياسي بين الحكم والمعارضة ولا سيما في أوساط طلاب الجامعات والمدارس.
ذلك أن التباينات السياسية العاصفة بين الأحزاب الرئيسية عكست نفسها تماما على الأنشطة الطلابية في الجامعات والمدارس، بعد أن لجأت الأحزاب إلى تشكيل تنظيمات شبابية طلابية لدعمها سياسيا وتحريكها في أوقات الأزمات على شاكلة تنظيم “الساترو ليك” الشبابي التابع لحزب “رابطة الاستقلال” والمصنف على أنه يساري وتنظيم “الساترو دول” الشبابي التابع للحزب الوطني البنغلاديشي، وكذلك تنظيم “الساترو شابير” الشبابي التابع لحزب الجماعة الإسلامية، وكلها تتخذ من الجامعات منطلقا لها.
وعلى مستوى الحزبين الرئيسيين “رابطة الاستقلال وحزب بنغلادش الوطني” اتسمت العلاقات بينهما بالإقصاء والتصفيات في ظل التنافس المحموم بين الحزبين اللذين طالما أعادا إنتاج الوجوه القديمة لعائلتين متنافستين على الحكم منذ الإطاحة بالجنرال حسين إرشاد عام 1990 هما عائلة الرئيس الأسبق مؤسس دولة بنغلادش وقائد الانفصال عن باكستان الشيخ مجيب الرحمن، وعائلة الرئيس السابق مطيع الرحمن الذي قتل في عام 1981.
الأول أورث زوجته خالدة ضياء (79 سنة) قيادة الحزب الوطني الذي فاز في أول انتخابات برلمانية عام 1991 بعد تحالفه مع الجماعة الإسلامية التي منحت خالدة ضياء أغلبية الحصول على منصب رئيسة الوزراء في حين أن الثاني الذي قتل في عملية اغتيال عام 1995، أورث ابنته الشيخة حسينة (76 سنة) قيادة حزب “رابطة الاستقلال” الذي فاز في انتخابات برلمانية ثانية نظمت عام 1996 أوصلتها إلى رئاسة الحكومة.
وخلال الـ 23 سنة الماضية تبادلت خالدة ضياء والشيخة حسينة واجد منصب رئاسة الوزراء وسط مواجهات وتوترات شديدة بين الحزبين وصلت إلى حد زج الشيخة حسينة غريمتها خالدة ضياء في السجن.
ولم تكن الجماعة الإسلامية في بنغلادش- والتي تزايد نفوذها في فترات حكم “حزب بنغلادش الوطني”- بعيدة عن مسار الازمات ومن ضمنها الاحتجاجات المناهضة لحكم الشيخة حسينة واجد التي أكدت قبيل مغادرتها العاصمة داكا أن اقلية كانت وراء الاحتجاجات الشعبية وأعمال العنف، في إشارة إلى الجماعة الإسلامية والتي كانت تكن العداء للشيخة حسينة وحكومتها بسبب نشاطاتها الواسعة في مكافحة التطرف الديني.
آمال التغيير
رغم أن كل القوى السياسية التقليدية في بنغلادش عملت ما بوسعها لاستثمار حالة الاحتقان الشعبي والطلابي لصالح مشاريعها السياسية إلا أن الكيانات الطلابية والشعبية التي قادت حركة الاحتجاجات بدت هذه المرة مدركة لمطالبها نحو التغيير في ظل الزخم الشعبي الحريص على أن تسفر الانتخابات القادمة عن وجوه جديدة وقيادات شابة يمكنها قيادة عجلة تغيير التركيبة السياسية التقليدية التي كرست واقعا انقساميا لم يجن ثماره سوى رموز سياسية لشرائح قليلة من المجتمع.
والتقديرات تؤكد أن ثمة فرصاً مواتية لإحداث هذا التغيير، مع تناقص فرص الأحزاب التقليدية وضمنها الجماعة الإسلامية الفوز في الانتخابات استنادا إلى إرثها السياسي الثأري الذي ظهر إلى العلن بعد هروب زعيمة حزب “رابطة الاستقلال” بأعمال عنف وثأرت سياسية ودينية وانتهاكات عمت المدن البنغلاديشية.
هذه التداعيات قللت من احتمالات أن تمضي الانتفاضة الشعبية قدما نحو تحقيق هدف التغيير، فقد أثبتت أن كل مسببات الأزمات والصراع لا تزال لصيقة في أقطاب المعادلة السياسية القائمة حاليا، ومن غير المستبعد أن تقود بنغلادش إلى دوامة من التصفيات والانتقام والثأر السياسي والفوضى.