كان صاحب قصيدة مختلفة، حملت رموزها التراثية والصوفية والثورية في غالبية الأحيان. كان رموزها الحلاج، ومحيي الدين بن عربي، وفريد الدين العطار وغيرهم من أقطاب الصوفية، تُضاف إليهم الأسماء والرموز الكبرى لعالم الثورات الإنسانية، ذات البُعد اليساري، مثل غيفارا، ولوركا، وبيكاسو، ونيرودا، ورافائيل ألبرتي، وناظم حكمت وغيرهم.
كان ذلك في هبّة انغماري الشعري، وتتبّعي المتلهّف لشعر الروّاد والشغف الكلي بعالم الشعر حثيما كان، حين وقعت وأنا في العشرين من العمر، على شعر عبد الوهاب البياتي. جاء ذلك بُعيد قراءتي لنازك الملائكة والسياب.
قرأت الملائكة بتمعّن ودقة، فوجدتها تتوغّل في عالم الوجود برومانسية كئيبة، وهي المجددة الأولى في عالم القصيدة الحديثة مع رفيقها السياب، فهما اللذان تنافسا على الأولوية في كتابة القصيدة الحديثة، تلك الحداثة التي أقلقت المنظومة الكلاسكية القديمة، فهدّت من أركانها وزعزعت مكانتها المتوارثة في مسار الشعر العربي الكلاسيكي، الذي ظل متوارثاً قرابة الألفي عام.
إلى جانب هذين الشاعرين الرائدين، برز زميل ثالث لهما وهو في سن السيّاب ذاتها، ومن نفس «دار المعلمين العالية» هو الشاعر عبد الوهاب البياتي، الشاعر الرائد والمُغيّر الحقيقي باتجاه مسار القصيدة المدينية، غير الريفية كما كانت لدى السيّاب، وغير الرومانسية الحزينة المليئة باللواعج، والمناشدات الداخلية للنفس وهمومها الذاتية، كما كانت لدى الملائكة.
جاء البياتي البغدادي وابن المدينة، لينقل ثقافته الشعرية ومفردات مدينته اليومية، عكس السياب الريفي، الغارق في الأساطير الرومانية واليونانية والثقافة الإنجيلية.
فدخل البياتي هادئاً قليل الكلام، كما وصفه صديقه الروائي وابن منطقته فؤاد التكرلي، فلقد كانوا: فؤاد وأخوه الناقد نهاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، يُضاف إليهم القاص والروائي المجدد عبد الملك نوري، يشكلون مجموعة ثقافية لهم مقهاهم الثقافي «البرازيلية» في «شارع الرشيد»، في قلب بغداد، فهو خير مكان لهم يجمعهم للمحاورة، وتداول أمورهم وشؤونهم الأدبية والثقافية اليومية، من دون أن ننسى من التحق بهم في ما بعد، كالشاعرَين الرائدَين بلند الحيدري وحسين مردان.
في تلك المدة، انطلق البياتي وإن متأخراً قليلاً عن الركب بعام أو عامين، نتيجة تغيير كلّيته من «العسكرية» إلى «دار المعلمين العالية» أو «الآداب حالياً». لكنه انطلق كالصاروخ ليصل مع الاثنين، هذا إن لم يسبقهما في تقديم قصيدته الجديدة، تلك القصيدة الناصعة، القصيدة القصيرة الواضحة غير المزخرفة، وغير المحشوّة بالرموز الإغريقية، بل هي قصيدة مختلفة، تحمل رموزها التراثية والصوفية والثورية في غالبية الأحيان.
رموزها الحلاج ومحيي الدين بن عربي وفريد الدين العطار وغيرهم من أقطاب الصوفية، تُضاف إليهم الأسماء والرموز الكبرى لعالم الثورات الإنسانية، ذات البُعد اليساري، مثل غيفارا، لوركا، بيكاسو، نيرودا، روفائيل البيرتي، وناظم حكمت وغيرهم.
أما الميزة الأهم والأكبر في اعتقادي الشخصي، تلك التي ميّزت البياتي عن أقرانه من الشعراء، فهي موضوعة المنفى، فهو رائد شعر المنفى بامتياز، فلقد ذاقه باكراً، ولذعه المنفى بتعدّد أشكاله ووجوهه وأقنعته في أكثر من موضع، وهو أول من جسّد ثيمة المنفى كمفهوم وجودي ذي بعد رؤيوي، وهو أول من وضع ديوان شعر يتضمّن اسم المنفى، ألا وهو ديوانه اللافت واللامع حينذاك «أشعار في المنفى» ثم تبعه بـ «عشرون قصيدة من برلين» و«الذي يأتي ولا يأتي» و«الموت في الحياة»، ناهيك بدواوينه اللاحقة أبرزها ديوان «قصائد حب على بوابات العالم السبع» وهو يشير عبر اسمه إلى دوران الشاعر في القارات، باحثاً عن معنى لوجوده في هذا العالم.
لم أنس حين كنت فتى في بغداد، كيف كنا نتغنّى بأشعاره في حدائق «اتحاد الأدباء» ثملين بشعره الذي كان يحفر في دواخلنا رموزه الاستبطانية، من أجل اللحاق في المنفى، لو حصل لنا أي مكروه في العراق. وفعلاً وكما تنبّأ البياتي، فلقد ولّينا الأدبار زرافات ومجموعات باتجاه المدن الغريبة والمجهولة، بحثاً عن موطئ قدم لنا فيها، بعدما ضاق العراق الواسع علينا لنصل إلى:
«مدن بلا فجر تنام
ناديت باسمك في شوارعها
فجاوبني الظلام».
أو «..نحن من منفى الى منفى
ومن باب لباب
نذوي كما تذوي الزنابقُ
في التراب»
عاش البياتي الكبير في أكثر من بلدة وعاصمة عربية وأجنبية. باكراً كان في موسكو، ثم انتقل إلى القاهرة، وفي ما بعد عاد إلى بغداد، وبعد مضيّ بضع سنوات، تدهورت الحياة في بغداد وتوتّرت الأوضاع السياسية، فرتّب أوضاعه، لينتقل إلى العيش في مدريد قريباً من الشعراء الذين أحبهم: خمينيث، لوركا، بيثنت الكسندرا، رافائيل ألبرتي وغيرهم من الباحثين والمستشرقين، الذين درسوا شعره وقدّموه كمادة أدبية في الجامعات الإسبانية.
بعد انتهاء وظيفته في سفارة العراق في مدريد كمستشار ثقافي، عاد إلى بلده، لكنه حين عاد لم يطق البقاء في بغداد مرة أخرى، بسبب تنامي الحس الطاغي للطاغية، فرحل إلى عمّان العاصمة الأردنية ليستقر فيها، فكانت المحطة الأكثر نتاجاً والأهدأ بعد حياة متنقلة، هنا وهناك، انتهت في دمشق لتكون الخاتمة فيها.
في أفق هذا السياق، تواترت قصائده عن الرحيل والمنفى والغربة، وكثرت في قصائده مفردات: الحقائب، القطارات، المسافرون المنفى، المدن الباردة، الظلام، الثلج، المطر، الليل، الأرصفة، المحطات، الضياع، والمجهول، وكل ما يتعلّق بمسألتَي الارتحال والسفر، وكل ما يمت للإنسان المرتحل من نزوع نحو الحرية والانعتاق من الأغلال، التي يرسمها القدر تارة والسلطات تارة أخرى. كان البياتي ينادي طوال حياته بالثورة والتمرّد وكسر التابوات، بتجاوز الإنسان لنفسه وتحقيق حقوقه التي سلبها الحاكم الظالم، أو الإقطاعي المتجبر، أو البرجوازي المتحكّم بمصائر الناس المغلوبين.
لم يهن البياتي طوال حياته، لم يخف من أحد، ولكنه كان المراوغ الأكبر، يعرف كيف يحارب ومتى يثور ويهدأ، يخشى لسانه الحاد كالسيف الشعراء والنقاد والروائيون والقصاصون والكتاب والصحافيون، وكانت كلماته تطير في الأجواء، وتحلق عالياً إذا ما أطلقها باتجاه شاعر ما، أو روائي ما، أو كاتب ما، فتصل إلى هذا وذاك بسرعة البرق، لما فيها من هجاء حارق، لقد نال من الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد وأحرقه كلّياً، كونه كان مدّاحاً لا يجارى للطاغية، ولاحساً جبّاراً لمواعين الديكتاتورية.
هاشم شفيق
شاعر وروائي ومترجم وناقد أدبي عراقي