والشاهد هو أن هذه الإستراتيجية ظلّت هي الأساس بالنسبة إلى صانع القرار داخل الوكالة المذكورة، والتي يصحّ توصيفها بـ«الجنين» الذي وُلد في ما بعد ليُعرف باسم «إسرائيل». ولعلّ من الممكن لحظ الجهد الهائل الذي بذلته الأخيرة عبر رقمين اثنين، أولهما يقول إن تعداد اليهود في فلسطين إبان إطلاق آرثر بلفور لوعده الشهير عام 1917، كان عند 60 ألفاً لا تزيد، فيما كان ذلك التعداد يقف عند حدود 700 ألف لحظة إعلان ديفيد بن غوريون قيام «دولة “إسرائيل”» عصر يوم الجمعة 14 أيار 1948.كان صانع القرار الإسرائيلي، منذ نشوء الكيان، مدركاً جيداً لحقيقة أن «الهجرة»، التي يُقصد بها هنا، من الخارج إلى الداخل الفلسطيني، تمثّل «النسغ» الذي يعتاش عليه ذلك الكيان، وانقطاعه يمثل تهديداً قائماً بموات الأنسجة وتلاشي قدراتها الوظيفية. ومن الممكن لحظ أهمية ذلك الأمر بوضوح، عبر المنحى الثقافي الذي استخدمه صانع القرار للتشجيع على الهجرة أولاً، ثم الدفع بالمستوطنين نحو التشبّث بالأرض التي قدموا إليها ثانياً. ففي اللغة المحكية لدى الصهاينة، تُستخدم كلمة «عاليه»، التي تعني بالعبرية «الصعود»، لتوصيف المهاجرين إلى الداخل، في حين تُستخدم كلمة «يوريديم»، التي تعني بالعبرية «الهبوط»، لتوصيف المهاجرين إلى «الخارج». وما بين المفهومين، تلوح أنفاس وايزمن التي ظلّ بن غوريون وفياً لاستنشاقها. وفي ذاك سيكتب في مذكراته في شهر آب 1948 أن «حركة الهجرة إلى “إسرائيل” جيدة، ولكن المطلوب أن تصبح بوتيرة أسرع».
من نافل القول إن الصراع الذي يقع عادة بين قوة احتلال وبين حركة مقاومة، من الصعب أن يكون فيه هدف هذه الأخيرة الفوز بـ«الضربة القاضية». والصعوبة إياها تتأتّى من اعتبارات عدة أبرزها اختلال موازين القوى القائم بين الطرفين بالضرورة، ثم المناخات المحيطة بذلك الصراع والتي تمثّل عاملاً لا يقل أهمية عن الأول. لكن من نافل القول أيضاً إن من بين الأهداف التي تسعى إليها تلك الحركة، عشية قرارها خوض جولة جديدة من جولات الصراع، هو إلحاق الضرر بشتى المرتكزات التي تقوم عليها قوة الاحتلال آنفة الذكر. وأي مرتكز «أثمن» من العصف بمفهوم وثقافة، من قماشة مفهوم الهجرة إلى «أرض الميعاد»؟
اليوم، وعشية دخول «الطوفان» شهره الحادي عشر، يمكن القول إن مفاعيله قد أحدثت اضطرابات كبرى في نسيج المجتمع الإسرائيلي، والأبرز منها كان قد تمظهر عبر موجات «الهجرة المعاكسة» التي تنامت بدرجات متصاعدة، وفقاً للتقارير الصادرة عن مؤسسات ومنابر إسرائيلية، مع لحظ أن هذا النوع من التقارير كان قد اختفى منذ نحو شهرين على الأقل، ما يشير إلى أن ثمة قراراً بمنع نشرها لاعتبارات تخص «الأمن القومي».
ونشرت مجلة «زمان» الإسرائيلية، أواخر شهر كانون الأول المنصرم، تقريراً قالت فيه إن المعلومات الواردة فيه مستقاة من «هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية»، يفيد بأن «470 ألف إسرائيلي هاجروا بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى»، ويضيف أن «هجرة اليهود إلى فلسطين قد انخفضت، في شهر تشرين الثاني 2023، إلى نحو 70% عن نظيرتها التي كانت سائدة خلال المدة نفسها من عام 2022». أما صحيفة «تايمز أوف “إسرائيل”»، فتقول في تقرير لها، مطلع شهر حزيران المنصرم، إن «نصف مليون إسرائيلي غادروا “إسرائيل”، ولم يعودوا إليها خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب»، وتضيف أن «نسبة المغادرين كانت أكثر بنحو 285% مقارنة بالمدة نفسها من عام 2022».
هذه الأرقام لا ترسم الصورة الكاملة بالتأكيد، نظراً إلى قصر المدة وصعوبة تقديم أرقام هي بحاجة يومية إلى «تحديث»، ناهيك بأن تلك الأرقام يستحيل لها أن ترى طريقها إلى النشر من دون العبور على أولئك المخولين «تشذيبها»، لكي لا تتّشح الصورة بسواد من النوع الذي يرسم في الذات ملامح لمستقبل أقل ما يقال في توصيفه إنه مجهول. لكنها تعكس بالتأكيد حالاً من انعدام الثقة عند المستوطنين، بقيادتهم التي ما انفكّت تزرع الأوهام فيهم منذ نحو سبعة عقود ونصف عقد، ثم تعمد إلى ترسيخ معادلة في ذوات هؤلاء، قوامها أن «البقاء هو أكثر كلفة بكثير من الجلاء»، وأنه ما من سبيل لعيش آمن فوق أرض مغتصبة، فالسارق يجب أن يظلّ يقظاً إلى الدرجة التي تبدأ فيها انهيارات الحواس، وحينها فقط يبدأ التفكير في إيجاد الحلول.
بهذا المعنى، فإن «طوفان الأقصى» لم يشكّل تحدياً أمنياً وسياسياً ل”إسرائيل” فقط، بل هو رمى بأسئلة وجودية قد يطول الوقت قبل أن تلقى أجوبة لها. ولعل اليوم الأصعب في تاريخ “إسرائيل” سيكون اليوم التالي لنهاية الحرب، والذي سيُفرض فيه على «ماسكي السجلات» فتحها لتبيان ما ورد فيها من أرقام لم تمرّرها «يد الرقيب»، كما كانت تفعل في الإعلام والتقارير المعدّة للنشر. والمؤكد هنا أن الفعل سوف يؤدي من حيث النتيجة إلى الدخول في أتون حرب سياسية لا هوادة فيها، ولهيبها سوف يستمد جذوته من بيئة اجتماعية باتت أقرب إلى «اليباس»، ومن تحديات اقتصادية كبرى سوف تدفع بالكثيرين إلى سؤال أنفسهم: «لماذا البقاء؟ وما الضير في رحيل يجنّب ابتلاع كل هذه المرارة؟».