صدر حديثاً..

غزة.. جريح كل دقيقة وشهيد كل 4 دقائق

يشكل كتاب "غزة: حرب الانتقام المسعورة" نموذجاً فريداً للكتب الوثائقية التي ينتجها عديد من المتخصصين ممن عايش معظمهم الحدث وتابع مجرياته لحظة بلحظة.

2024-08-20

يشكل كتاب “غزة: حرب الإنتقام المسعورة” نموذجاً فريداً للكتب الوثائقية التي ينتجها عديد من المتخصصين ممن عايش معظمهم الحدث وتابع مجرياته لحظة بلحظة.
كتاب “غزة: حرب الانتقام المسعورة” مؤلَّف جماعي مرجعي، تضمّنت الأوراق البحثية فيه وقائع وظروف الحرب الصهيونية الوحشية المستمرة على قطاع غزة، وقدّمت تحليلات دقيقة لتطوراتها وتداعياتها على القضية الفلسطينية خصوصاً، وعلى الصراع العربي – الصهيوني، عموماً.

فصّل الباحثون المشاركون مختلف جوانب الحرب الهمجية المتواصلة منذ أكثر من تسعة أشهر بلا هوادة على غزة، وتناولوا في السياق مواضيع مختلفة في شتى المجالات المتصلة.

ويتميّز الكتاب بجهد وأقلام باحثين متخصصين عايش معظمهم الحدث في واقعه أو تابع مجرياته من كثب، فجاء متضمّناً نظرة معمّقة إلى الحرب الوحشية غير المسبوقة في همجيتها، وحجم الدمار الذي تخلّفه بين ساعة وأخرى، وأعداد ضحاياها المتزايدة لحظة بلحظة من جرّاء الاعتداءات الخطيرة القاتلة والمتواصلة على الأهالي، إذ اقترب عدد المسفوحين ظلماً وعدواناً اليوم من 38 ألف شهيد وزهاء 80 ألف جريح، وهذه أرقام يتوقع ارتفاعها مع تواصل العدوان، هذا من دون معرفة عدد الذين ارتقت أرواحهم وما تزال أجسادهم تحت أنقاض البيوت المدمرة، بفعل تواصل حرب الإبادة الجماعية من دون هوادة. فجاءت النصوص ترصد وتحلّل تطورات الكارثة وظروفها ومآلاتها، مع التوقف عند مواضيع أخرى مرتبطة بتاريخ القضية الفلسطينية، أعادتها إلى الواجهة من جديد وأظهرت فظاعة الجريمة الصهيونية.

فإذا كانت غزة تردّ بالمقاومة والصمود ميدانياً، فإن الردّ بالكتابة ظلّ مستمراً كحالة حياة تتحدى الموت.

كُتبت نصوص الكتاب، سواء من خيام النزوح أو من مراكز الإيواء، وشارك فيها متخصّصون في مختلف المباحث، من سياسية واستراتيجية وحتى نفسية واجتماعية وطبية، تراوحت بين السرد والقصة الواقعية أو التسجيلية والقصيدة والبوح والمناجاة، فعكست مجتمعةً جوانب شتى من معاناة أهل القطاع الذين تحوّلت حياتهم إلى محاولات مستمرة للنجاة والصمود، من دون توفَّر أدنى مستلزمات ذلك.

منهج تدميري

يبيّن الباحثون المشاركون في الكتاب كيف دمّر الاحتلال البنى التحتية والتجهيزات وأغلب المؤسسات الصحية والتعليمية والإدارية، فضلاً عن البيوت والأبراج السكنية والمؤسسات العامة والخاصة والمتاجر والمعامل في منطقة حضرية مزدحمة بالسكان، حيث أسفرت غاراته وتوغلاته عن ارتقاء عشرات الألوف من المواطنين المدنيين بين قتلى وجرحى، كانت غالبيتهم من الأطفال والنساء.

غطاء قانون الطوارئ

في اليوم التالي لانطلاق عملية “طوفان الأقصى”، صدّق الطاقم الوزاري الأمني المصغّر في الكيان الصهيوني على قرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إعلان حالة الحرب ضد غزة، بما يعني وضع الكيان الصهيوني وسكانها بمن فيهم أهل الأرض وأصحابها الفلسطينيون، وجميع المرافق الحياتية المدنية والخدمية تحت قانون الطوارئ. وفي اليوم نفسه، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية إرسال حاملتَي طائرات إلى الشرق الأوسط لدعم الكيان الصهيوني ومنع توسع الحرب، كما أعلنت دول أوروبية وغربية دعمها الكيان الصهيوني المعتدية من دون مبالاة بفظائع ارتكاباتها الإجرامية.

بعد أيام من انطلاق العدوان المتوحش على غزة، انقطعت الكهرباء بشكل كامل عن القطاع بتوقف محطة توليد الكهرباء الأساسية عن العمل؛ بفعل نفاد الوقود ومنع “الجيش” المعتدي إدخاله. فتُرك ملايين الغزيين لحرّ الصحراء القاتل، بينما كانت الطائرات والصواريخ والمدافع ومختلف أدوات القتل والتدمير تطارد هؤلاء المدنيين العُزّل بين متاهاتهم.

وفي حين أعلنت حصيلة رسمية يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر أن عدد القتلى الصهيونيين في عملية “طوفان الأقصى” بلغ 1200 شخص، بينهم مئات الضباط والجنود، أفادت وزارة الصحة الصهيونية بإصابة أكثر من 3 آلاف صهيوني، بينهم 28 في حالة حرجة، و345 في حالة خطيرة، وأعلن “الجيش” الصهيوني أن نحو نصف مليون صهيوني نزحوا من مناطقهم. ومن الطبيعي الإشارة إلى أن هذه الأرقام لا تعبّر عن الحقيقة باعتبارها تُعلن تحت وصاية لصيقة بأجهزة الاستخبارات في “الجيش”.

ثم، جاء دور تخلّص الكيان الصهيوني من أسراها كي لا يكونوا نقطة ضعف تضغط على نتنياهو وحكومته في سبيل تحقيق أي نوع من الهدنة، فأعلنت كتائب القسام مقتل 13 أسيراً لديها -بينهم أجانب- من جراء القصف المكثف الذي نفذته قوات الاحتلال على القطاع خلال الأيام الأولى.

ولم يلبث المتحدث باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” أن أعلن أن نحو 50 أسيراً محتجزين لديها قتلوا جراء الغارات الصهيونية المستمرة. وفي 5 تشرين الثاني/ نوفمبر، قالت كتائب القسام إن القصف الصهيوني على قطاع غزة تسبّب بفقدان أكثر من 60 أسيراً.

في هذا الوقت، أكدت منظمة العفو الدولية (أمنستي) استخدام الكيان الصهيوني الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً في غزة، كما أعلن برنامج الغذاء العالمي أنه لا يوجد ما يكفي من الطعام لإعالة سكان ‎القطاع المهددين بالمجاعة. وعلى الرغم من الجهود الدولية التي بُذلت، فقد فشل مجلس الأمن الدولي في جلسته المعقودة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

10 كلغ متفجرات لكلّ غزّي

في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أعلن الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله أن “معركة طوفان الأقصى فلسطينية 100%، ولكنها أصبحت ممتدة في أكثر من جبهة وأكثر من ساحة”، مشدداً على أن حزب الله انخرط فيها منذ اليوم الثاني على انطلاقتها، وأنه مستمر في خوضها.

ومن جهة ثانية، طالب رؤساء 18 منظمة ووكالة أممية في بيان مشترك (نادر) بشأن الوضع في غزة “بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية”، مبدين غضبهم من ارتفاع حصيلة الضحايا المدنيين في القطاع والتي بلغت آنذاك نحو 10 آلاف، نحو نصفهم من الأطفال.

وكتب رؤساء الوكالات الأممية في بيان على موقع اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة، ما نصّه “منذ شهر تقريباً يراقب العالم الوضع الحاصل في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بصدمة ورعب إزاء العدد المتزايد من الأرواح التي فقدت”.

أما المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، فأعلن أن غزة قُصفت بألف طن من المتفجرات، بمتوسط 82 طناً لكل كيلومتر مربع واحد، وأن إجمالي سكان قطاع غزة باتوا ضحايا مباشرين من جراء هذا العدوان، إما شهداء أو جرحى. وأضاف البيان أنه يتم تسجيل جريح كل دقيقة، وشهيد كل 4 دقائق، وطفل شهيد كل 10 دقائق، وشهيدة كل 12 دقيقة.

بدوره، ذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن حصة الفرد الواحد من المتفجرات بفعل الهجمات الصهيونية المتواصلة على قطاع غزة تتجاوز 10 كيلوغرامات.

 

محكمة العدل الدولية

دعت جمهورية جنوب أفريقيا يوم 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 إلى التحقيق مع قادة الكيان الصهيوني بشأن ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة. كذلك استدعت خارجيتها سفير الكيان الصهيوني لديها واحتجت أمامه على ما وصفته بسلوكه المؤسف والمرتبط بالحرب على غزة.

وكانت بريتوريا العاصمة قد استدعت في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر دبلوماسييها كافة من الكيان الصهيوني، ودعت الأمم المتحدة إلى نشر قوة سريعة لحماية المدنيين في غزة.

بعد كل ذلك، تقدمت جنوب أفريقيا رسمياً بدعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية في لاهاي، ودعمتها بتقرير من 84 صفحة تضمن أدلة تدين الكيان الصهيوني بسعيها إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطيينين، وطالبت بتدبير حماية مؤقتة للفلسطينيين.

وقد أصدرت المحكمة يوم 26 كانون الثاني/ يناير 2024 حكمها بإقرار سلسلة من الإجراءات والتدابير المؤقتة لمنع الإبادة الجماعية في قطاع غزة، مطالبة الكيان الصهيوني بالعمل الفوري بها.

وطالبت المحكمة الكيان الصهيوني برفع تقرير خلال شهر بشأن كل التدابير المؤقتة المفروضة، واتخاذ تدابير فورية لتحسين الوضع الإنساني، ومنع التدمير في القطاع.
مقابر جماعية

أعلن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان توثيق أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية في محافظات قطاع غزة لدفن شهداء العدوان الصهيوني.

ووفقاً للمرصد، فقد “لجأ الناس في القطاع غلى إنشاء مقابر جماعية عشوائية في الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات وصالات الأفراح والملاعب الرياضية، في ظل صعوبة الوصول إلى المقابر الرئيسية”.

ورصدت وسائل الإعلام جثامين شهداء فلسطينيين تحللت في شوارع بيت حانون، شمالي قطاع غزة، إذ لم يتمكن الأهالي من دفنها بسبب شدة القصف الصهيوني، وتعذّر وصول سيارات الإسعاف والدفاع المدني. وقبل ذلك، وردت شهادات عن جثث أخرى تركت في الطرقات ونهشت الكلاب أجزاء منها.

تبنّى مجلس الأمن الدولي للمرة الأولى قراراً يدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة يوم 25 آذار/ مارس، وأحجمت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) هذه المرة، في حين ألغى نتنياهو زيارة وفد صهيوني إلى واشنطن؛ احتجاجاً على امتناع الأخيرة عن التصويت.

القرار الصادر بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة -والذي قدّمه 10 أعضاء منتخبين في المجلس بقيادة موزمبيق- يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في رمضان تحترمه جميع الأطراف، ويقود إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار.

كما طالب القرار بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المحتجزين، فضلاً عن ضمان وصول المساعدات لتلبية الاحتياجات الطبية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية، وينص على أنه يتعين على الأطراف الامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي في ما يتعلق بجميع المحتجزين.
الخاتمة

يشكل كتاب “غزة: حرب الانتقام المسعورة” نموذجاً فريداً للكتب الوثائقية التي ينتجها عديد من المتخصصين ممن عايش معظمهم الحدث وتابع مجرياته لحظة بلحظة. من هنا، يشكل الكتاب مرجعاً ثميناً يضيء على ظروف وملابسات الكارثة التي صنعها “الجيش” الصهيوني وقيادات الكيان السياسية الممسكة بزمام ما يجري.

ولا شك أن أفضل وصف إجمالي لهذا العمل التوثيقي الجاد هو ما كتبه الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف يقول: “هذا ليس كتاباً عن غزة، بل كتاباً عن الإنسان والمكان والحياة خلال الحرب”.

محمود بري
كاتب وباحث لبناني

 

المصدر: الوفاق/ وكالات