في الذكرى السنوية السادسة والأربعين لإخفاء الإمام المغيب القائد السيد موسى الصدر وأخويه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين:الإمام الصَدر أُمّةٌ في رَجُل

إن معرفة الإمام الصدر لهموم اللبنانيين من الجنوب إلى البقاع إلى أحزمة البؤس إلى عكّار هي معرفة سابقة على حضوره إلى لبنان

2024-08-27

الحاج خليل حمدان / عضو هيئة الرئاسة في حركة أمل

تتزاحم الكلمات على أعتاب سيرة الإمام السيد موسى الصدر وسموّ إنجازاته لاسيما وأنه حَمَل تَعبنا بامتياز ونفض عنا غبار السنين وأخذ بيدنا مدافعاً عن المحرومين في لبنان ومن جميع الطوائف ناصراً لهم وهو يقول ليتني أستطيع إنقاذ جميع المحرومين في العالم فهو عصي على الاختزال في سيرته وقد يعتري المرء شح عندما يحاول الإيجاز لسيرة راكمها بجد وجهاد في حله وترحاله فهو كسنديانةٍ تعشقها القمم طالما فتح أبوابه على درب الأنبياء والصدّيقين في سبيل الله من أجل الإنسان اينما كان بل يمكن تظهير الصورة بشكل أعمق عندما تتجسد أفعاله وأقواله بحمل هموم الأمة وإشهار أهدافها فيصدق فيه القول أمّة في رجل فهو المسكون بحب الفقراء والمعذبين وهو الحامل للواء المظلومين فتناقلت الألسن ورسمت الأقلام تحت رسم شخصه “أمل المعذبين وصرخة مستمرة في وجه الطغاة”، أجل على درب النبيين والأئمة الصالحين ارتضى ومضى مصداقاً للآية الكريمة: “إن إبراهيم كان أمّة”.

 

إن المتتبع لسيرة الإمام المغيب السيد موسى الصدر منذ الولادة تستوقفه البيئة الحاضنة له والملكات الشخصية التربوية والعلمية والجهادية جعلته مبكرا في مصاف الكبار بل العظماء، ونظراً لشمولية اطلاعه وموسوعته الفكرية سواء على مستوى الحوزة الدينية أو لخوضه تجربة انتسابه للجامعة في كلية الحقوق في طهران، وكذلك بتجربته النضالية في وجه شاه إيران عندما خط بقلمه وهو في سن الاربعة عشر حيث كتب في جريدة “أُستُوار” الايرانية مقالات بعنوان “إلى متى العذاب” منتقداً سياسة الشاه الظالمة بحق الشعب الإيراني ووعود حكومته الكاذبة التي تَعِدُ ولا تفي، وكذلك أدرك الإمام مبكّراً ضرورة بناء مدارس تُبعِد التلاميذ عن ثقافة التربية الموجّهة التي تكبّل الوعي وتعمل على محو الذاكرة وكأنّ الإمام الصدر يحاول أن يُبعِد شبح قصف العقول عن الناشئة.
في مطلع شبابه قرر الامام إنشاء المدارس الأهلية مقابل المدارس الحكومية وبالمتابعة والضغوط حصل على إجازة تأسيس أول ابتدائية في قم سميت باسمه (ابتدائية الصدر) وتحت إشرافه وإدارته فكانت تلك البذرة التي نمت فيما بعد لتثمر الكثير من المدارس الأهلية هناك إضافة إلى اهتمامات الإمام الصدر بمخاطبة الشباب المثقفين والجامعيين بخاصة لمواجهة محاولات تشويه الفكر الرسالي القرآني فبعد عودته من العراق عام 1958 إلى قم أصدر العدد الأول من مجلة مكتب إسلام أو مدرسة الإسلام، طرح فيها قضايا اقتصادية معاصرة وبدعم من آية الله البروجردي فنالت اهتمام الشهيد مطهري والشهيد بهشتي وعدد من كبار العلماء خاصة مقالات الإمام الصدر حول المذهب الاقتصادي في الإسلام إذ كانت تحاكي العصر ومن الأبحاث الحديثة في ذلك الوقت.
الامام الصدر في العراق: حافظ الامام الصدر على تفوقه كما كان في قم بين زملائه في الدراسة والمباحثة فأدهش جميع أقرانه وأساتذته والمتابعين وكانوا ينظرون إليه بِعَين العظمة والأمل بمستقبل زاهر حتى أن المرحوم آية الله العظمى المرحوم السيد الخوئي زعيم الحوزة الدينية آنذاك لم يكن يجيز في درسه لأي كان أن يطرح الإشكالات العلمية ولم يكن يجيب عليها ولكنه أجاز ذلك للإمام الصدر فكان يستمع إلى إشكالياته بدقةٍ واحترامٍ بالغين وينقل عن الامام السيد الخوئي نفسه قوله في إحدى جلسات تدريسه “كان املي بموسى الصدر كبير ولو بقي ثلاث سنوات أخرى في النجف فسيبرز كأحد أكابر الشخصيات العلمية المرموقة” حتى ظل يردد أكثر من مرة في مجلسه قوله “ليتني لم أتعرف على السيد الصدر”، وكان هناك إجماع من كبار مراجع التقليد بتعليق الآمال على هذه الشخصية العزيزة المرموقة فها هو آية الله سيد محمد باقر سلطاني الطبطبائي قال “كان السيد موسى الصدر واحدا من أبرز الشخصيات العلمية في النجف ولو بقي سنوات قليلة أخرى فيها ولم يهاجر إلى لبنان لكان بلا شك سيبرز كواحد من كبار مراجع التقليد في العالم”، وهناك شهادات أوسع وأكبر من أن يتضمنها مقال أو دراسة مبسطة فسيرته العلمية والإعلامية الجهادية جعلته مرجعاً في مقارعة الظلم والعدوان على قاعدة قرآنية كان يحلو للإمام تردادها “والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان”، فالبناء التكويني ينبغي أنه يواكَب بالعدل ورفض الظلم وإلّا وقَع الاختلال في الاجتماع الإنساني.

 

حضور الإمام إلى لبنان: بعيدا عن السيرة السردية لهذا الحدث الكبير فإن الإمام قدم إلى لبنان بعد وفاة الإمام الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين هذا الإمام الذي ذاع صيته وعلا صوته في أرجاء العالم الإسلامي بشكل عام في رحلته الجهادية فكان ملهماً للثوار وبات علامة فارقة في زمن الاحتلال الفرنسي وترك السيد شرف الدين العديد من المؤلفات التي لا تزال ترفِد العلماء وبمدادها نوراً ومعرفةً ووحدةً وتقريباً. في غيابه كان القلق يعمّ الأوساط العلمية لاسيما المرجعية منها وبقي السؤال “من يخلف السيد عبد الحسين شرف الدين؟”، هذا السؤال الحائر تحدّث عنه الكثيرين خاصة عام 1958، ولا شك أن مقال المرحوم العلامة شيخ محمد جواد مغني في مجلة “العرفان” يعبر عن هذا الواقع الذي يعتريه الألم ويترك الغربلة للإمام أن يمنّ الله على اللبنانيين عامة والمسلمين بخاصة من يملأ هذا الفراغ وهذا ما جاء في مجلة العرفان المجلد 45 الجزء الثالث صفحة 798 بعنوان “من سيخلف شرف الدين”، يقول الشيخ مغنية رحمه الله “أتى على المقدّس شرف الدين حيناً من الدهر وهو من رؤساء العلماء في جبل عامل ثم أصبح بعد وفاة زملائه الكبار الرئيس الأول وحده لا شريك له، أما اليوم وبعد أن لبّى هذا الجليل نداء ربه يرى البعض أنه الخليفة دون غيره وآخر أنه أحد أطراف الشبهة المحصورة، وثالثٌ أنه الفرد المردّد بين تعيينه والتخيير بينه وبين غيره”، وهذا يدل على القلق لإيجاد بديل عن شخصية دينية استثنائية ولكن عن الإجابة التي تحاكي المعضلة، فيقول المرحوم الشيخ محمد جواد مغني في نهاية مقاله “إن الشيعة يتركون التصفية والغربلة للأيام فهي الكفيلة وحدها باختيار الأصلح والأصدق والأنفع”. وبالفعل منّ الله علينا في لبنان بالأصدق والأصلح والأنفع العالم الرسالي الذي التزم بمواجهة الظلم والعدوان الإسرائيلي والمطالبة برفع الحرمان.

 

قدِمَ الإمام الصدر إلى لبنان نهاية عام 1959 بتأييد وتأكيد من كبار المراجع في العالم وتنفيذاً لوصية الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين الذي توسم به خيراً بعد أن تعرف عليه عن قرب عند زيارة الإمام إلى لبنان للمرة الأولى عام 1955 ثم عام 1957 وأوصى بأن يخلفه بعد أن حلّ ضيفاً على السيد عبد الحسين شرف الدين المتوفي في 31-12-1957.

 

عرف الإمام الصدر السيد شرف الدين ليخط بقلمه بعضاً من تجربته معه عن قرب فيقول “سيدي عرفتك أباً عطوفاً وارف الظلال مضيافاً مرشداً ومربياً وعرفك بلدك مصلحاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الشعائر وينصر المظلوم ويحكم بين الناس بالقسط وعرفك وطنك قائداً ثائرا يبذل أقصى ما يمكن بذله ولا يثنيه جبروت المستعمر” ويضيف الإمام الصدر عن السيد شرف الدين “وعرفك العالم شمساً تنير الأفق المدلهم الواسع من خلال رسائلك وكتبك إلى مختلف الأقطار”.

أجل هذه الشخصية الفذّة والقامة الشامخة السيد شرف الدين أوصى ابناءه ومحبيه بأن يخلفه السيد موسى الصدر الذي اكتشف فيه مكنون الشخصية الرسالية فيه والمشحوذ علماً وعملاً والواعد بإكمال المسيرة وصولاً للغد المشرق، ولبى الإمام وصية الإمام وبدعم من مراجع وعلماء الذين حثوا الإمام الصدر على القيام بالمهمة في طريق ذات الشوكة ولا يتحملها إلا رجل امتحن الله قلبه بالإيمان.
أو كما هو لسان حال الناس لقد منّ الله علينا بهذه الهامة التي أخذت بيدِنا من عالم النسيان والإهمال والاستهداف إلى مرحلة تحرير الوعي بالدعوة لتحقيق المطالب المزمنة والتي يمكن إيجازها بثنائية طالما شكّلت مرتكزاً لخطاب الإمام السيد موسى الصدر تتلخص بإزالة الحرمان المزمن المقصود ومواجهة العدوان الصهيوني المتمادي على شعبنا وأرضنا وسط تأمر دولي وإهمال عربي وتجاهل من قبل السلطة اللبنانية.

 

إن معرفة الإمام الصدر لهموم اللبنانيين من الجنوب إلى البقاع إلى أحزمة البؤس إلى عكّار هي معرفة سابقة على حضوره إلى لبنان لذلك لم يراكم تجربة طويلة الأمد حتى تعرّف على طبيعة التركيبة اللبنانية وطوائف لبنان وممارسات العدو الصهيوني فقد كان على معرفة بالواقع اللبناني بكل تفاصيله قبل أن يزور لبنان لأول مرة وهو على علمٍ بجميع التحديات ولذلك مع وصوله بدأ بخطبه الهادفة التي ترتكز إلى معلومات مبنيّة على حقائق حتى أسماها الكتاب والباحثون “الإقناعية في خطب ومقالات وبيانات الإمام الصدر”، مستخدماً أسلوب الإعلام الاستدراكي عندما يحذّر وينذر من عواقب الإهمال والهروب من مواجهات العدوان بل عمل ضمن خطٍ تصاعدي بوسائل شريفة من المطالبة إلى تكوين رأي عام إلى الاستفادة من الطوائف في لبنان في هذه المواجهة مؤسساً هيئة نصرة الجنوب من أركان الطوائف الدينية اللبنانية كافةً والتي شكّلت بارقة أمل لدرء الخطر الصهيوني على قاعدة أن إسرائيل بوجودها العنصري تعتبر أن لبنان بعيشه الواحد عدو استراتيجي وتعزيز الوحدة الوطنية ورفض الطائفية والمذهبية أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل، وتصاعدت الحركة المطلبية التي دعمها مثقفون ووجوه سياسية واجتماعية من جميع الطوائف لتُتَوّج هذه الحركة المطلبية بمهرجاني بعلبك 14 آذار 1974 وصور 5 أيار 1974 التي شكلت منطلقاً عملياً لتحديد المطالب بعد أن تعالت الصرخة التي هزت الضمائر ووضعت السلطة أمام مسؤولياتها حتى قيلَ “لبنان على المفترق أو موسى الصدر” بما يعني وما يمثل من دعم سياسي وإعلامي ونقابي منقطع النظير.

 

وكانت مسيرة إزالة الحرمان بتحقيق العديد من الإنجازات بعد رحلة طويلة من النضال والجهاد واستمرت حركة أمل بهذه المسيرة مع دولة الرئيس الأخ نبيه بري، ولازلنا بحاجة إلى المزيد طبقاً للحرمان المزمن ومستجدات متطلبات تأمين مقومات الصمود في مواجهة العدوان الصهيوني الذي قال فيه الإمام الصدر “إسرائيل شر مطلق”، وعلى يدي الإمام الصدر تفتّحَت ضامئات الزهر وكان إعلان ولادة أفواج المقاومة اللبنانية أمل بعد انفجار لغم عين البنية في 5 تموز 1975، وباتت المقاومة هي الحل الحقيقي في مواجهة عدو يمتهن لغة القتل وسفك الدماء الذي حول المستشفيات والكنائس والمساجد والمدارس إلى مقابر دون أن يستثني خيام اللاجئين في غزة ولو تحت علم الأمم المتحدة.

 

أخفى المجرم معمر القذافي الإمام السيد موسى الصدر وأخويه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين ولكن قضية الإمام الصدر وأخويه لن يطويها الزمن فالإمام الصدر لم يَعُد ذكرى بل ذاكرة والمبادئ والقيم التي عمل لأجلها لازالت تضج حضوراً في متابعة المسيرة فالمقاومة كما قال الأخ نبيه بري في أكثر من محفل رسمي وشعبي ومؤتمر ولقاء “المقاومة باقية باقية باقية” ومسيرة الشهداء تَشهَد على ذلك، من شهداء حركة أمل إلى جميع الشهداء المقاومين في لبنان وفلسطين وعلى مساحة العالم.
وفي الذكرى السنوية السادسة والأربعين لإخفاء الإمام الصدر نتطلع إلى موقف مسؤول طالما أكدنا عليه في حركة أمل بالعمل الجاد والحثيث لتحرير الإمام الصدر وأخويه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين من سجنهم في ليبيا على قاعدة أن المجرم القذافي ونظامه البائد مسؤول عن الإخفاء والنظام الليبي الحالي مسؤول عن تحريرهم ليعودوا إلى ساحة جهادهم في مواجهة الشَرذَمة والطائفية والمذهبية وللاستمرار في مسيرة المقاومة عبر ثلاثية ماسيّة تتلخص بالجيش والشعب والمقاومة كرافعة أساسية لحفظ الأرض والإنسان.