يتحدث كتاب “الصدر سحر ما فوق الغياب”عن إنجازات الإمام الصدر منها تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إنشاء مبرات ومعاهد فنية، إلقاء محاضرات، الدعوة إلى التوحيد والحوار.
في ذكرى غياب الإمام موسى الصدر نغتنم هذه المناسبة العظيمة لمراجعة كتاب “الصدر سحر ما فوق الغياب” للمؤلفين عبد الحليم حمود وشادي منصور،الصادر في بيروت عن دار “زمكان”، وهو توثيق لأحداث ومواقف ولنشاط لا يهدأ. كما أن الكتاب ليس رواية ولا تكراراً لخطاب سياسي مأساوي، بل هو مسار انطلق من إيران إلى لبنان وقصص وحكايات لقائد تنقل فتى بين حارات قم وطهران إلى شاب في مدينة صور يحمل هم طائفة في لبنان وهم ثورة في إيران.
بداية الهموم
عاصر موسى الصدر الحرب العالمية الثانية، وكان شاهداً على خسارة فلسطين سنة 1948، واكب العدوان الثلاثي على مصر، وكذلك الحرب الباردة والمقاومة الشعبية في فیتنام، ثم هزيمة العرب في العام 1967، وصولاً إلى ترميم الهزيمة في العام 1973. عاش صراعات اليمين واليسار، وكان شاهداً على إرهاصات الحرب في لبنان ثم وقوعها في نيسان 1975، هو ابن زمن التحولات واحتشاد المحاور في داخله رجل خارج حدود التصنيف.
يشير المؤلفان إلى أن فكرة ولادة هذا الكتاب والاتصال والبحث عن معارف السيد في إيران والعراق لبنان هو لسرد السيرة بتفاصيل مختلفة… لنعطي الحكاية روحاً… لنتخيله طفلاً في حارات “قم”، ثم رجلًا في حارات “صور”، وهكذا في كل مراحل حياته، حتى صعوده سلّم الطائرة مخلّفاً وراءه آخر خطاه، وآخر عطره وظلاله وأنفاسه…
الرحلة تنطلق من إيران مع المهندس “مهدي فيروزان”، ابن شقيقة “السيد موسى”، وزوج ابنته الكبرى حوراء. الذي شرح خاصيّة شخصيّة “الصدر” الذي كان يزور إيران، فيحادث الجميع، كباراً وصغاراً مصغياً ومستفسراً عن تفاصيل لا تهم سوى أصحابها عادة فإذا كان جليسه صغيراً في سن الدراسة، يسأله عن المواد التي يتعلَّمها، وعن المعلّمين، وعن نظام المدرسة، وزيّ الطلاب. ولم تكن تلك الأسئلة عشوائية، فهو مهتم فعلاً، ويريد أن يعرف كل شيء عن كل شيء. أما المفارقة فكانت عندما عاد «الإمام» في زيارته الثانية إلى إيران، والتقى الشخص ذاته، واستكمل معه الحديث بكل جزئياته، من دون أن ينسى ما كان قد سمعه منذ سنة. هكذا كان “الصدر”.
ومن مميزات الإمام مزجه بين الجرأة والدبلوماسية، وتقسيم خطواته بين ما هو تكتيكي واستراتيجي. له أجندته الخاصة، التي لا تشبه غيرها، يتلقى الكثير من السهام والخناجر بعزيمة، أو بطيبة خاطر، ذلك أنه يرى ما يريد من هدفه، من مسافة زمنية، فيمشي وينجز لتتساقط تلك السهام من تلقاء نفسها.
يلحظ الكتاب مفارقات بين الساحة المختلفة في ذاك الزمن، حيث لم تكن الساحتان الإيرانية والعراقية مهيئتين لأي فعل تحديثي كبير في الفكر الديني والأداء السياسي والانفتاح الحقيقي على المجتمعين الإسلامي والعالمي فكان لبنان أرض الضرورة، لأنه خصب بطبيعته المتعددة وهو فضاء الحريات الواسع، ولكونه بلداً بعيداً من نقطتي الارتكاز الشيعي في قم والنجف، حيث هناك صعوبة في التغيير لحسابات عدة، وكان الإمام يقول دائماً إنه لو لم يكن هناك لبنان فكان يجب علينا أن نخلق لبنان من أجل التغيير والإصلاح والعدالة ومن أجل الإنسانية جمعاء.
قصص وحكايات
هناك قصص وحكايات وأسلوب في التعامل جعلت قلب “موسی الصدر” مركزاً للخير. كان هناك من يتمنّى له الموت، ويشمت بعملية الاختطاف… وشديد الكره لـ”الإمام”. فهو يدين “الصدر” على دخوله الكنائس، وعلى انفتاحه على جميع الأطياف.
يمتلك البعض قلوباً سوداء، بينما لـ “الصدر” قلب صوفي لناحية نظرته إلى المخلوقات كافة بعين واحدة. فحين سألته صغيرته “حوراء” عن الفرق بين المسلمين والمسيحيين، أجابها بآية من سورة البقرة “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
هكذا كان واسع الأفق، حتى في حديثه اليومي العادي مع أبنائه. وحين جاء خبر الاختطاف في ذلك اليوم المشؤوم، كانت العائلة في فرنسا. تلقّى ابنه صدر الدين المكالمة، وكان في أولى سنواته العشرين.
حافظ على رباطة جأشه أمام والدته وبقية إخوته، وصار يجري الاتصالات. بداية، اعتقدنا أنها مسألة أيام، ثم صارت أسابيع، وأشهراً وسنوات، وعقوداً. لم يبرد السؤال، ولم تجفّ الدمعة في فترة غيابه، استشهد صديقه الأقرب “مصطفى شمران” ورحلت والدته السيدة “صفية” بعد اختطافه باثني عشر عاماً، وتوفيت زوجته السيدة “بروين” في العام 2021، ليستكمل العمل مع شقيقته “رباب”، ومع أولاده صدر الدین، وحمید وحوراء، وملیحة، وكأن الجريمة قد وقعت للتو.
يشير المؤلفان إلى أن الأحاديث في بيت «”اَل الصدر”، كانت تجري في اللغتين الفارسية والعربية، كونها لغة القرآن من جهة، وكون العائلة متأثرة بجذورها اللبنانية والعراقية من جهة ثانية. تقول السيدة “رباب” التي تحدّثنا بلغة عربية لم تتخلّص كلّياً من لحن الكلام الفارسي، إن والدها كان يتكلم بفارسيّة يظهر عليها الأثر العربي. لذا، لم يكن البيت فارسياً صافياً، فلطالما استحضرت فيه شجرة العائلة العربية، لأن الاتصال والتواصل لم يتوقفا مع الأهل في العراق وفي لبنان.
وقد أغنى هذه الحالة حضور اللغة القرآنية، في كل مراحل الدراسات الحوزوية. لذلك، كان «”الصدر” جاهزاً لخوض الحياة الفقهية والسياسية في لبنان، مستفيداً من لكنته الفارسية التي أعطته بعداً كاريزمياً تضافر مع عينيه، وقامته وعمامته وعلومه، وابتسامته.
اهتم الصدر بانتهاج أولاده نهج المعرفة ناقلاً الروافد المعرفية إلى البيت لتكون المكتبة حاضرة، والصحف اليومية وصوت القرآن المرتّل، يصدح والموسيقى. وكان شديد التركيز والمتابعة لمدارس أولاده، معتمداً طريقته بالانفتاح، حيث درست ابنته “حوراء” صفين من المرحلة المتوسطة في “راهبات الرسل” في “البوشرية”.
في تلك المرحلة، كانت الحرب قد أطلّت برأسها على لبنان فراحت “حوراء” تتصل بصديقاتها المسيحيات عارضة عليهن الاستضافة في بيتها، في منطقة الحازمية في جبل لبنان، لأنها كانت أكثر أماناً ومرت سنوات كثيرة، وعاودت بعض أولئك الزميلات الاتصال بالسيدة “حوراء” ليذكرنها بمبادرتها تلك، في الوقت الذي نسيت فيه “حوراء” ذلك. فتلك الخدمات والمبادرات كانت أمراً طبيعياً ويومياً عند عائلة “الإمام”.
وقد تابع الإمام الصدر حركة الحداثة في عالمي الفن والأدب، وكان شاهداً على التحوّلات.
تأثر “السيد موسى بقصائد حافظ الشيرازي”، حيث يمتزج العرفان بالحكمة، وبالتمرّد والغزل ولا يزال ديوانه يعيش في يومنا هذا مع كل إيراني، حيث درجت العادة أن يستخدم الإيرانيون شعر حافظ، الذي تنقل بين تركيا، والشام و مصر، والعراق، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في شيراز. تشرب “الصدر” كل هذا الماضي والحاضر، وتشرب معهما المعلومات الأكاديمية والدروس الحوزوية. ثقافة عامة امتلكها، لكنه كان دوماً يعرضها للنقد والبحث حين يخوضها مع أساتذته ورفاقه.
محاولة فهم الماركسية
في العام 1953، عمل مع فريق من الشباب الجامعي على فهم الفكر الماركسي، بغية التصدّي له،لكن هذا التصدي لم يكن من زاويته الاجتماعية المنحازة إلى الفقراء، إنما من حيث جزئية الإلحاد التي بدأت ترخي ظلالها على الشباب، خاصة أن حزب “تودة” الشيوعي الإيراني، كان قد تمدّد بنسبة لا بأس بها في معاقل التدين، وصولاً إلى بعض أبناء رجال الدين الكبار، وكان هذا الحزب يشن حملات مركزة على المتدينين ويعتبرهم “تجار الشعوذة”، الأمر الذي أعطى دفعاً لـ “الإمام” ليتصدى لهم أكثر. استمرت مشاكل الإمام مع “الشيوعيين” في لبنان، حيث يكشف في لقاء مع الباحثة منى مكي أن اليسار في مفهومنا هو قوة تغيير ونحن نعتبر حالنا قوة من قوى التغيير”.
لقد كان “الصدر” من المتابعين لحركة تأميم النفط في العام 1952 ، متواصلاً مع آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني، ومع رئيس حركة “فدائيان إسلام” الشهيد السيد نواب صفوي الذي كان يعقد اجتماعاته السرية آنذاك في منزل والده آية الله العظمى السيد صدر الدين الصدر. اهتم “السيد موسى” بطروحات حزب الحركة الوطنية الذي أسسه الدكتور محمد مصدق، في الاتجاه العلماني وتابع تأسيس حزب نهضة الحرية ذي الصبغة الإسلامية، في أنموذج يشبه مؤسس الحزب الدكتور مهدي بازركان.
كتاب “الصدر سحر ما فوق الغياب”، يعتبر أن المحيط العائلي للسيد موسى كان منغمساً في السياسة والشأن العام. لذلك، لا يُعدّ بروزه أمراً خارج السياق، وها هو يقول: “عائلتنا في الواقع عائلة دينية قبل كل شيء، وإن كان فيها كبار رجال السياسة ومنهم محمد الصدر، الذي كان رئيس وزراء العراق، وأحد أركان استقلال العراق. وكذلك عمي السيد محمد مهدي رجل دين وأحد أركان استقلال العراق. وفي عائلتنا، إن كان في العراق، أو في إيران، أو في لبنان”.
الإمام طالب في النجف
وفي العام 1954، كان السيد موسى، صاحب العمامة السوداء، على موعد مع نقلة ثقافية مكانية لها خصوصياتها من حيث نمط العيش والعادات والتفاصيل الأخرى كالمأكل والمشرب والملبس. وتمظهر ذلك حين سافر إلى “النجف الأشرف” لمتابعة تحصيل العلوم الدينية العليا، وشارك في “جمعية منتدى النشر”، وأصبح عضواً في هيئتها العلمية التي كان أولى اهتماماتها عقد الندوات الثقافية ونشر أبحاثها ودراساتها.
هناك، لم يكن «”الصدر” غريباً ولا ضيفاً “إيرانياً” على المكان، فوالده أبصر النور فيها وعائلته لها امتدادها العظيم. وقتذاك، كان “السيد موسى” يستجمع جذوره في الأماكن الثلاثة التي تمددت فيها: “إيران، والعراق، و لبنان، الذي سيزوره في العام 1955، ليعود ويستقرّ فيه منذ العام 1959 في مدينة صور، حيث صار إمام مسجد الإمام “الجواد” الذي شيده السيد عبد الحسين شرف الدين.
يقول الإمام الصدر في حوار مع “منى مكي”: بعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين طالب بعض أهل صور وبعض المؤمنين بحضور العلماء، فلم يوفقوا، أو بمعنى أصح لم يتفقوا، فبقي الفراغ نحو سنتين في مدينة صور. راسلوني، وطلبوا أن أحضر.
والحقيقة أنني كنت في المجامع الدينية في قم في ذلك الوقت. وكنت أهتم بإصدار مجلة اسمها «”مكتب إسلام” أي المدرسة الإسلامية. ثم أتيت إلى لبنان. عشت نحو الشهر في “صور”، وبالفعل وجدت أن هناك استعداداً تاماً للقبول، وتفاهماً کاملاً من الناس ومحبة، عارمة ومكاناً مناسباً للعمل. فاخترت صور واستقررت فيها، وأخذتُ بيتاً”.
كمال مساعد
كاتب وباحث لبناني