الكاتبة والباحثة اللبنانية ”بتول زين الدين” للوفاق:

سينما المرأة في إيران.. سينما الأخلاق والإنسان

خاص الوفاق: إذا كانت السينما الإيرانية قد وضعت إيران على الخارطة الثقافيّة في العالم سواء في مهرجان "كان" أو "برلين" أو "أوسكار"، فقد كان لقضايا المرأة الدور الأبرز في فوزها بتلك المهرجانات

2024-09-10

عبير شمص

 

بعدما كانت السينما الإيرانية قبل الثورة الإسلامية تتمحور حول موضوعاتٍ لا تشكّل قضايا إنسانيةً جوهريةً بقدر ما هي في الواقع مادة ترفيهية هابطة إلى حدٍّ كبير، أصبحت منذ لحظة انتصار الثورة تحمل مقاربةً مختلفة جديدة، لتخرج من الصيغة الترفيهية التجارية والتسويقية، إلى صيغةٍ ديناميكيةٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ عالية. وبما أن المرأة كانت أحد أهم الدعائم في هذه السينما بدأ يتبلور حضور مختلف للمرأة فيها، فقد استعادت مكانتها ومنزلتها التي كانت تفتقر إليها قبل الثورة وأصبحت تتمتع بحقوقها كاملة مما جعلها تبدع بعملها كإنسانة كاملة وبذلك فرضت على العالم النظر إليها بإعجاب وتقدير واحترام. ومع التعاظم لدور المرأة في صناعة السينما، اهتمّ الكثير من المثقفين والكتّاب بدراسة الدور السينمائي للمرأة في الحاضر والماضي، ومن هؤلاء الدكتورة بتول زين الدين التي يُعتبر كتابها ”المرأة في السينما الإسلامية.. السينما الإيرانية نموذجاً” دراسة مهمة وعميقة لكيفية طرح قضية المرأة في السينما الإسلامية، خاصةً السينما الإيرانية، وقد أجرت صحيفة الوفاق حواراً مع هذه الباحثة والكاتبة اللبنانية، فيما يلي نصّه:

 

إنعطافة كبيرة في صورة المرأة بعد الثورة
شكّلت الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م منعطفًا ثقافيًّا ونقطة تحوّل في قضايا المرأة، سواء في الجمهوريّة الإسلاميّة أو العالم الإسلامي لناحية التشريعات والقوانين، انعكست على مجالات المجتمع كافّةً وبشكلٍ بارز في وسائل الإعلام وخصوصًا السينما التي كانت من أبرز المتأثرين بها. ولمّا كانت المرأة إحدى أهم الدعائم في السينما وإحدى أهم عوامل نجاح هذه الثورة التي أفضت إلى قطع ثقافيّ، فبدأ يتبلور في السينما حضور مختلف للمرأة في المجتمع بعد الثورة، تشرح الدكتورة زين الدين. وتؤكد على أنه:” إذا كانت السينما الإيرانية قد وضعت إيران على الخارطة الثقافيّة في العالم سواء في مهرجان “كان” أو “برلين” أو “أوسكار”، فقد كان لقضايا المرأة الدور الأبرز في فوزها بتلك المهرجانات”. 

وتعتبر الكاتبة والباحثة اللبنانية زين الدين أن:” السينما الإيرانيّة واجهت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة جُملةً من التحدّيات، منها كيفيّة معالجة الكثير من الموضوعات ضمن إطار النظام الإسلامي، ومنها كيفيّة التعامل مع المرأة، وكان الهاجس الأكبر إقصاء المرأة من السينما، إذ كان يتم التعاطي معها في سبعينات السينما كعنصر إغراء لاجتذاب الجمهور ورفع اقتصاديّات شبّاك التذاكر، ولم يكن السؤال عن كيفيّة تعامل السينما الإيرانيّة مع المرأة بعد الثورة مطروحًا من الخارج فقط، وإنّما من داخل الجمهور والكادر الفني السينمائي أيضًا. فتحولت صورة المرأة في الأفلام عما كانت عليه قبل الثورة ولم يعد هناك مجال للمقارنة بين المرأة شبه العارية، في أواخر العقد الستين والعقد السبعين من القرن العشرين، وبين المرأة المحجبة في نهايات العقد السبعين والعقد الثمانين”.

 

“هوليوود” يشوّه صورة المرأة الإيرانية

 

تُرجِع الدكتورة زين الدين أسباب اختيارها لدراسة واقع المرأة في السينما الإيرانية إلى سببين: الأوّل لأنها تُقدّم نموذجًا جديدًا للمرأة بعيدًا عن الصورة النمطية لها في السينما العالمية والعربية. والسبب الثاني بسبب حملة التشويه التي تتعرّض لها المرأة الإيرانية تحديدًا في سينما “هوليوود”، فبعد تحليلي للأفلام الهوليوودية التي تتناول المرأة الإيرانيّة وجدت أن “هوليوود” لم تتوان عن استخدام المرأة لمحاربة الجمهورية الإسلامية منذ سنوات، وكان الحديث عن المرأة في إيران أحد أشكال المواجهة الثقافية السينمائية الأميركية على إيران، مثل الأفلام التالية: “ليس من دون ابنتي”، “أرغو”، “رجم ثريّا”، “سبتمبر في شيراز” وغيرها من الأفلام التي قدّمت فيها “هوليوود” المرأة الإيرانية بصورة مشوّهة، أو عرضت قضيّة من قضايا المرأة بأسلوب غير واقعي، فالمرأة الإيرانية في سينما هوليوود سارقة، عنيفة، متخلّفة (المؤيِّدة للنظام)، مُعنَّفَة، مهدورة الحقوق ومغلوب على أمرها (المعارِضة للنظام)، مصّاصة دماء، تتعاطى المخدرات، إذ تشير تواريخ إنتاج الأفلام التي تظهر فيها المرأة الإيرانية في السينما الأميركية إلى رحلة مستمرة من تعزيز الصورة السلبية للمرأة الإيرانية في هوليوود. من هنا كانت ضرورة التصديّ لحملات التشويه بإظهار الصورة الحقيقية للمرأة الإيرانية وقضاياها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.

 

الأخلاق والإنسان في سينما الثورة

 

الإباحة والعنف كانا قبل الثورة عاملين هامّين وثابتين للجذب وركيزتين لإنتاج الأفلام، فحلّ مكانها العلاقات الإنسانية والمعايير الأخلاقية: السينما الأخلاقية – الإنسانية، وفق الدكتورة زين الدين التي ترى أن :”أحد النماذج التي يتجلّى فيها العنف والجنس في الأفلام قبل الثورة فيلم “كلك نزن خوشكله” الذي يظهر النظرة للمرأة آنذاك. يعلّق على الفيلم مقدّم بأسلوب المعلّق الرياضي، فنشاهد رجلاً في السيارة يُزاحم سيّدة للركوب معه ويقول المعلق: “يظهر التاريخ أنّ الرجال مازالوا مطيعين للحسناوات، من هنا بدا الحظ السيِّئ لهذا الرجل: إركبي هذه السيارة (يقول الرجل)، أتأخذني إلى دولاب الهواء أيضًا؟ (تجيبه وهي تسير في الشارع)، فيتابع المعلّق: المرأة، هذا المخلوق العجيب والغامض، هذا اللغز غير قابل للحلّ، هذا البلاء، أخذت هذا الرجل العطشان إلى قلب الساقية وفور أن وصلت مقصودها ذهبت إلى الشرطة ورفعت شكوى ضدّه، لا تراوغي أيتها الجميلة! الله لا يعجبه هذا!”، بالإضافة إلى التعنيف اللفظي وإظهار المرأة كمخلوق ماكر ومؤذٍ، شاهدنا في الفيلم الوثائقي الذي عرضته الميادين “وثائقي الميادين – أنا إيرانية” في السينما والمسرح في احتفالات شاه إيران (كوروش) كيفيّة تعنيف رجال الشرطة للنساء المحجبات في الشارع وكيف بقين حبيسات للمنزل كما قال القائد.. لمّا أراد الطاغية “رضا خان” المجيء لنا بهدايا الغرب كان أوّل ما جلبه خلع الحجاب وفرضه (المنع) بقوّة حرابه وعنجهيته، وفرض أن يكون اللباس قصيراً وأن يكون ارتداء القبّعة وفق طريقة معينة.. وكل مَن يتجرّأ ويرتدي غير القبّعة البهلوية التي اشتهرت وقتذاك أو يرتدي الملابس الطويلة (من النساء) فإنّه يواجه الضرب والطرد، ولم يكن مسموحاً للنساء بارتداء الحجاب، ليس فقط العباءة التي مُنعت يومذاك، بل حتّى لو غطّت النسوة رؤوسهنّ بالخمار وأخفين مقدّمة شعورهنّ فإنّهن يتعرّضن للضرب (من كلمة ألقاها في جيلان، في مدينة رشت، بتاريخ  2000م)”. وتلفت الدكتورة زين الدين  بأنه :”طبعًا تغيّرت النظرة أولاً للمرأة بعد الثورة، وهو ما انعكس بدوره على مشاركتها في العمليّة السينمائيّة أكان خلف الشاشة (ككاتبة سيناريو أو مخرجة، أو كلاهما) أو كممثلة؛ لكن الأدوار والقضايا تغيّرت، وارتفعت نسبة مشاركتها في العمليّة السينمائيّة”.

 

دعم مؤسسات الثورة لحضور المرأة في السينما

 

تعتبر الدكتورة زين الدين أنه:”لم تبتعد السينما الإيرانية عن طرح القضايا الإشكالية المتعلقة في المرأة سواء في سينما “الدفاع المقدّس” أو السينما الاجتماعية: الزواج الثاني (للرجل أو المرأة)، الزواج من طائفة أخرى، الطلاق، الترمُّل، الأحوال الشخصية، حضانة الأطفال، عدم القدرة على الإنجاب، فتور العلاقة الزوجية (من أي طرف). ومن الحرب إلى الحبّ والعلاقة مع الرجل، وبعيدًا عن صورة المرأة في سينما “الدفاع المقدّس” حضرت المرأة المتخلّية عن الرجل (مهرجويي، هامون)، المستغنية عنه، المتعالية عليه (عروس، أفخمي)، الناقمة عليه، (فرهنك، فيلمان بتذكرة واحدة)، انتقلت فيه الرؤية والتوجه في بعض الأفلام من تعاطف مع المرأة إلى تعاطف مع الرجل ولوم للمرأة، وتُتابع حديثها بالقول:”إذا كان الجنس والتعنيف من المواضيع الرئيسية لحضور المرأة قبل الثورة، كانت تظهر فيها النساء كشخصية منفعلة، موجودات متعلقة بالرجل، فقد أصبح الإطاران المحرّمان بعدها، بحيث انتقلت السينما بعد الثورة من النقيض إلى النقيض في ما يتعلّق بكيفية حضور المرأة في السينما”.

 

تطور لافت في دور المرأة بعد الثورة

 

بين غياب شبه تام للمرأة أمام الشاشة في الأعوام الأولى بعد الثورة (العقد السابع وبدايات الثامن)، ثم حضور نوعي وكمّي مكثّف بعد منعطف الثورة السينمائي النسوي (بعيدًا عن اللقطات المقرّبة)، وبين غياب تام للمرأة خلف الشاشة قبل الثورة وحضور متزايد بعدها، تحديدًا منذ التسعينات من القرن العشرين، تشكّلت خصوصيّة حضور المرأة وقضاياها في السينما الإيرانيّة، تشرح الكاتبة والباحثة زين الدين. وهي ترى أنه لعقود من الزمن، فرضت السينما العالميّة من الناحية الأنثوية على المرأة التشبّه بالرجل بجسدها، قصّة شعرها، لباسها فاقتضى المخطط الهوليوودي، تقديم نجوم السينما كقدوة، هذه المعايير الجمالية فرضوها واضعين نموذج “flapper” المرأة التي تدخن، تشرب الكحول، تتشبّه بالرجل حتى تستغني عنه، مشددين على الجسد النحيف، ما حدا بالنساء إلى رفضهنّ أن يكنّ أمّهات حتى لا تتغيّر أجسادهنّ. أما الرجال وضعوا لهم نموذجا: هيرمافرودايت (الرجل المخنث). بهذه الطريقة بات الجنسان متشابهين تدريجيًا، وتصاعد الشذوذ، وتدمّرت بالتالي الأسرة، وبتنا في مجتمع لا يستطيع الرجل تحمّل الأبوّة ولا المرأة تحمّل الأمومة.”

 

أما السينما الإيرانية، فتعتبر الدكتورة زين الدين أنها شهدت ولادة جديدة بعد الثورة انبثقت بعبارة مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني(قدس) بعد أن عاد إلى إيران في الأوّل من شباط 1979 اختصر فيها الرؤية الجديدة للسينما الإيرانية في ظل النظام الإسلامي: “لا نُعارض السينما، إننا نُعارض الفحشاء”، فابتعدت عن الإباحة والعنف اللذين كانا قبل الثورة عاملين هامين وثابتين للجذب وركيزتين لإنتاج الأفلام في العالم، فأحلّ مكانها العلاقات الإنسانية والمعايير الأخلاقية: السينما الأخلاقية – الإنسانية. وكان الانعطاف الإيجابيّ للسينما الإيرانية بعد الثورة عندما مدح الإمام الخميني(قدس) فيلم “البقرة” (1969) رائعة “مهرجويي” المبني على قصّة للكاتب غلام حسين سعيدي، تعالج بقالب اجتماعي فيه تعاضد، وهو فيلم مستوحى من الفكر الواقعي الإيطالي، ركيزته البساطة، يعتمد على ممثلين غير محترفين. ويمكن القول إنّه قد غيّر تعريف السينما الإيرانيّة واللحظة المحدِدة لها وقد أصبح مثالا لكل عمل سينمائي كبير منذ ذلك الوقت. إن دراسة علاقة رجل ببقرته، وبساطة السرد الذي يتطور على التدريج، إلى فحص غني لطبيعة حيوانية الإنسان، إنّ ذلك فوق ما أنجزه أي واحد من جيل “مهرجويي”، وطلع فجر عصر جديد في السينما الإيرانيّة مع أداء “عزت الله انتظامي” الذي لا ينسى لدور الرجل الذي تستحوذ عليه بقرته بحيث يجنّ عند موتها. لقد أنجز “مهرجويي” ما لم يستطع أحد أن ينجزه من قبل، إذ إنه أعطى للسينما الإيرانيّة طابعًا واتجاهًا وأفصح عن إمكاناتها وجعلها محطّ اهتمام العالم. ولولا فيلم “البقرة” لما كانت السينما الإيرانية على ما هي عليه اليوم. لقد خلق الثقة في نفس كل صانع فيلم إيراني وقف بعده وراء الكاميرا”.

المصدر: الوفاق/ خاص