تؤكّد حقائق التاريخ والجغرافيا أن الوضع في غزة يعدّ مسألة مصرية بقدر ما هو مسألة فلسطينية، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها الأهمية الاستراتيجية التي تشكلها الحدود الشرقية لمصر، والتي حظيت باهتمام استراتيجي كبير. وكان الإدراك دائماً وواضحاً أن الحد الشرقي يمثل الدرع الواقية ضد أي أطماع توسعية، وأنه في الوقت ذاته مصدر رئيسي لتهديد أمن مصر.
هذا الحد الذي يبدأ من نقطة رفح على البحر المتوسط، ويمتد في خط مستقيم تقريباً إلى نقطة خليج العقبة رأس طابا، ويبعد 3.75 ميل عن ميناء أم الرشاش على الخليج، هو الحد الذي سعت مصر باستمرار لتمارس عليه السيادة الكاملة وفق الاعتبارات العسكرية والجغرافية والسياسية والتاريخية الديموغرافية، بحسب ما ورد في كتاب “تاريخ تطور حدود مصر الشرقية وتأثيره على الأمن القومي المصري” للباحثة ألفت أحمد الخشاب.
ترى الكاتبة أنّ الحد الشرقي المصري ذو طبيعة شديدة التعقيد، وذلك لمجموعة عوامل، منها طابعه القانوني الجغرافي والسياسي والعسكري، ما جعله يحتل مكان الصدارة بين حدود مصر الدولية على مختلف الجهات. ولا تقتصر أهميته الاستراتيجية على الخبرة التاريخية، بل يستمدها من كونه الحد الوحيد مع دولة غير عربية، باعتبار أن الحد الشمالي يتعلق بالبحر.
وقد أثبتت الوقائع التاريخية هذه النظرة أو الرؤية التي تحدثت عنها الخشاب على اعتبار أن الخطر على أمن مصر إنما يأتي من جهة الشرق.
بناء على هذه الحقائق، أصبح من بديهيات الأمن القومي المصري أن فلسطين -بخاصة قطاع غزة- تشكل مكوناً رئيسياً في قلب مفهومه. وقيل في هذا السياق: “تهتز غزة فتلين بوابة مصر الشرقية، وتصمد غزة فتمتنع مصر كلها”.
وقد ذهب مختصون بالجغرافيا السياسية إلى حد اعتبار أن مصر وفلسطين، وخصوصاً غزة، تشكلان كتلة استراتيجية واحدة.
هذه خلاصة تاريخ طويل من أيام الفراعنة والرومان والعرب والتتار والصليبيين والاستعمار الحديث، إلا أنّ الأمور اتخذت طابعاً أكثر صعوبة منذ العام 1948 الذي شهد سيطرة الإسرائيليين على مساحة واسعة من فلسطين التاريخية.
لم تخفِ “إسرائيل” أطماعها التوسعية، سواء في البر أو البحر، ولم تتردد في بذل الكثير لكي تتمكن من الهيمنة على المنطقة العربية بمواردها الغنية المتنوعة، ما يؤهلها لتكون قوة إقليمية لها دور فاعل في الهيكل الدولي، وهذا ما أشارت إليه الخشاب في كتابها عندما أشارت إلى “أن هناك فارقاً هائلاً بين أن تكون دول جوار الحدود عربية أو أن تكون “إسرائيل” لاصقة للخط الحدودي، وهي في حالة استعداد وتأهل للفوز بمزيد من الأرض العربية”، مضيفة أن “أي نزاعات حدودية عربية عربية مختلفة كل الاختلاف عن الخلاف بين دولة عربية وإسرائيل”.
لم تتأخّر “إسرائيل” بترجمة أطماعها تجاه هذا الخط الحدودي الذي حظي باهتمام كبير من قبل كل الذين تعاقبوا على الحكم فيها، فقد لجأ “الجيش” الإسرائيلي إلى تجاوز هذا الحد في العام 1948، ثم في العام 1956، إلا أن مصر بقيت في قطاع غزة حتى حرب 1967.
في ذلك العام المفصلي من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، سقطت غزة في قبضة الاحتلال، إلا أن هذا الاحتلال لم يكن أخطر ما تعرضت له. كان توقيع معاهدة كامب دافيد بمنزلة رصاصة أصابتها في الصميم. لم تطالب مصر بناء على هذه الاتفاقية باسترجاع غزة من الاحتلال، وهذا ما يعتبره خبراء قانونيون منافياً للقوانين الدولية، إذ أنهت مصر العداء مع “إسرائيل” من دون أن تحاول رد الحقوق إلى أهلها، كما وافقت القاهرة على ترتيبات وإجراءات تساهم في تقييد دورها في غزة.
محطة ثانية في مسار التخلي المصري عن غزة، لم تكن أقل خطورة حصلت بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية في العام 2006. قامت مصر حينها بسحب سفيرها ووفدها الدائم في غزة. على الرغم من الطابع الأمني لهذا الوفد، فإنه كان وجوداً مهماً على الأرض. وبعد سحبه، أصبح هناك فراغ لأي دور مصري.
ماذا عن هذا الدور اليوم في ظل تعرض غزة لحرب إبادة من قبل “إسرائيل”، وفي ظل حقيقة تتبلور، مفادها أن نتيجة هذه الحرب ستحدد مصير المنطقة بكل دولها؟ وبطبيعة الحال، ستكون مصر أكثر المعنيين والمتأثرين.
هل تتعاطى مصر انطلاقاً من المعطيات الاستراتيجية التي تؤكد أن أمن غزة هو من محددات الأمن القومي المصري؟ وهل تدرك أن مقاومة قوية هي مصلحة عليا للقاهرة، وأن انتصار غزة سيمنحها فرصة لجني الثمار السياسية، وخصوصاً على مستوى دورها وحضورها في المنطقة؟
بانتظار الأجوبة، فإن “إسرائيل” تحاول الاستفادة من الوقت، وهي تسعى على قدم وساق من أجل فرض أمر واقع ميداني، وتحاول إسباغ شرعية دولية وإقليمية عليه في زمن ترتفع فيه الأصوات الإسرائيلية التي تعيد الاعتبار بشكل قوي إلى الفكر الإسرائيلي التوسعي الذي شكلت مصر وشبه جزيرة سيناء جزءاً أصيلاً منه.