انتشال جثامين ضحايا القصف الإسرائيلي المستمر منذ أحد عشر شهراً سيكون مهمة بالغة الصعوبة بسبب الافتقار إلى المعدات الثقيلة والآلات الضرورية لفرق الدفاع المدني، إضافة إلى منع الاحتلال دخول أي معدات بديلة إلى القطاع، علاوة على الاستهداف المتعمد لفرق الدفاع المدني والإنقاذ والمسعفين والأسر التي تحاول انتشال الجثث. وبسبب القصف الإسرائيلي الممنهج، واستخدام أسلحة ذات قدرة تدميرية كبيرة تُخلّف أطناناً من الركام ، أصبحت الأحياء السكنية والمباني المدمرة مواقع معقدة ومتداخلة تُصعّب عملية الوصول إلى من هم تحت الأنقاض.
لا أرقام رسمية تحدد عدد المفقودين
لا توجد إحصاءات دقيقة حول أعداد المفقودين في غزة، حيث أصبح اختفاء الأشخاص متكرراً في القطاع، ويشمل جميع الفئات من أطفال وبالغين ومسنين. وفقاً لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن عدد المفقودين في قطاع غزة يصل إلى 21 ألف شخص. من جهة أخرى، كشف تقرير نشرته منظمة «أنقذوا الأطفال» البريطانية أن ما يصل إلى 21,000 طفل يُقدَّر أنهم مفقودون في غزة، إذ يُعتقد أن 17,000 منهم على الأقل من دون مرافقة أو منفصلون عن والديهم، في حين يُرجح أن حوالى 4,000 آخرين محاصرون تحت أنقاض منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم. وأشار التقرير إلى أن من «شبه المستحيل» جمع المعلومات في ظل الظروف الحالية في غزة، نظراً إلى عدم السماح لوكالات الإغاثة والخبراء الجنائيين بالوصول إلى المنطقة. في الحقيقة، يبقى العدد الفعلي للمفقودين في غزة غير معروف، حيث تختلف الإحصائيات من جهة إلى أخرى.
نقص المعدات واستهداف فرق الإنقاذ
أعلن مدير الدفاع المدني في غزة رائد الدهشان، أن أعداد المفقودين تحت الأنقاض في غزة يزداد يومياً نتيجة لقصف الاحتلال الإسرائيلي المستمر على القطاع. وأضاف: «نسمع أصوات مدنيين تحت الأنقاض، ولكننا لا نملك المعدات والآلات الثقيلة لطواقم الدفاع المدني لمساعدتهم». ويعتبر انتشال الجثث من أسفل المباني والأبراج السكنية مهمة صعبة جداً، إذ يتعين على فرق الدفاع المدني والإنقاذ الاعتماد على أدوات قديمة، ومطارق يدوية، وتقنيات مر عليها الزمن للبحث عن الضحايا تحت آلاف الأطنان من الركام، ما يجعل عملهم أقل فاعلية.
فرق الدفاع المدني في غزة تعاني من نقص حاد في المعدات الثقيلة والآلات الضرورية، مثل الجرافات والرافعات، التي تعد أساسية لإزالة الحطام الكبير والكشف عن الضحايا المحاصرين تحت الأنقاض. هذا النقص في المعدات يعيق بشكل كبير قدرة الفرق على تنفيذ عمليات الإنقاذ بفعالية وسرعة. وقد أسهم استهداف الجيش الإسرائيلي المتعمد لهذه المعدات في تفاقم المشكلة، إذ تم تدمير عدد من الآلات والمعدات، ما زاد من صعوبة المهمة. علاوة على ذلك، هناك حاجة إلى أساليب بحث علمية مثل استخدام تقنيات التصوير بالأشعة تحت الحمراء والرادارات الخاصة بالكشف عن الأجسام تحت الأرض. ومع ذلك، فإن القيود المفروضة على إدخال هذه التقنيات إلى غزة تؤدي إلى تحديات إضافية في عمليات الإنقاذ.
كما تواجه فرق الإنقاذ في غزة تحديات إضافية بسبب استهدافها بشكل منهجي من قبل القوات الإسرائيلية. تقارير توثق أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قام بشن هجمات على فرق الدفاع المدني والإنقاذ، ما أدى إلى إصابة أفراد هذه الفرق وتدمير معداتهم. وبحسب البيان الصادر عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حتى اليوم الـ 330 للحرب، تم تسجيل 82 شهيداً من الدفاع المدني. بالإضافة إلى ذلك، تم استهداف المناطق التي تُجرى فيها عمليات الإنقاذ، ما يزيد من خطورة العمل ويعرّض حياة المنقذين للخطر.
المخاطر المرتبطة بالبحث عن المفقودين تحت الركام
عمليات الإنقاذ تحت الأنقاض محفوفة بعدد من المخاطر. يتعرّض عمال الإنقاذ للخطر بسبب:
1. انهيار إضافي للأبنية: المباني المتضررة قد تكون غير مستقرة، ما يزيد من خطر سقوط المزيد من الركام أثناء عمليات البحث.
2. انتشار المواد السامة: نتيجة القصف والانفجارات، قد توجد مواد كيميائية أو مواد خطرة أخرى قد تسبب ضرراً للفرق التي تحاول انتشال المفقودين.
3. مخاطر صحية: مع مرور الوقت، تصبح الجثث تحت الركام مصدراً لتلوث البيئة المحيطة، ما يزيد من احتمال انتشار الأمراض إذا لم تتم معالجتها بسرعة.
بقاء هذا العدد الكبير من الضحايا مدفوناً تحت الأنقاض وعدم نجاح محاولات استخراج الجثث لأشهر عدة يعكسان استخدام «إسرائيل» المتعمد لأنواع مختلفة من القنابل والذخائر والقوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم.
انتشار الأمراض والأوبئة
بما أن معظم جثث الضحايا قد تحللت بالفعل، فإن سياسة الاحتلال في عرقلة جهود انتشال الجثامين تؤدي بشكل كبير إلى تفشي الأمراض والأوبئة القاتلة في قطاع غزة. هذه السياسة لا تعرقل فقط عمليات انتشال الضحايا، ولكنها تزيد أيضاً من المخاطر الصحية العامة. إذ يسهم تحلل الجثث المتروكة تحت الأنقاض في انتشار الأمراض والأوبئة، عندما تتحلل الجثث وتطلق الجراثيم والميكروبات الضارة إلى البيئة. هذه الجراثيم يمكن أن تصل إلى مصادر المياه والتربة، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض المعدية مثل الكوليرا والتيفوئيد. كما إن دراسات بيئية تؤكد أن تلوث التربة والمياه يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في النظام البيئي المحلي، ما يؤثر على الزراعة والحياة البرية، ويزيد من التحديات الصحية.
كما إن قوات الاحتلال قد دمرت أيضاً البنية التحتية المدنية الأساسية في غزة، بما في ذلك مرافق معالجة مياه الصرف الصحي. هذا التدمير، بالإضافة إلى قطع إمدادات الوقود، يجعل من المستحيل التخلص من النفايات بشكل مناسب، ما يؤدي إلى تلوث بيئي واسع النطاق. إلى ذلك، فإن نقص إمدادات الوقود يؤثر بشكل مباشر على قدرة مرافق معالجة المياه، ما يجبر السكان على استخدام مياه ملوثة. هذا الوضع يعزز من تفشي الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة، ما يزيد من الضغط على النظام الصحي الذي يعاني أصلاً من تدهور حاد.
تقنيات متقدمة لكشف الحقائق
تلعب العلوم الجنائية دوراً محورياً في التحقيق في مصير الأشخاص المفقودين عبر تطبيق تقنيات علمية متقدمة توفر رؤى دقيقة وشاملة حول ما حدث لهم (راجع القوس: كيف قُتلوا؟ ماذا حدث؟ هل سنعلم؟). باستخدام تحليل الحمض النووي (DNA)، يمكن للخبراء تحديد هوية الأفراد بدقة حتى في ظل ظروف التحلل الشديد، ما يسمح بمطابقة الأنساب وإنشاء قاعدة بيانات علمية للتعرف إلى المفقودين. تقنيات التصوير الجيوفيزيائي، مثل الرادار المخترق للأرض (GPR)، تمكن المحققين من الكشف عن الأجسام المدفونة تحت الركام أو التربة، ما يسهم في تحديد مواقع الجثث بشكل غير مرئي. بالإضافة إلى ذلك، تسهم النمذجة الثلاثية الأبعاد وتحليل الأدلة المادية في إعادة بناء المشاهد الإجرامية وفهم ديناميات الحوادث التي أدت إلى اختفاء الأفراد. عبر هذه الأدوات العلمية المتطورة، يمكن تقديم إجابات دقيقة للعائلات المتضررة، ما يعزز من تحقيق العدالة وتوفير إغلاق حقيقي لملفات المفقودين.