هل يمكن فصل الثقافة عن الدين؟

يعتقد البعض ان من الصعب التقريب من الثقافة والدين، بدعوى أن الثقافة، بكل دلالاتها الاصطلاحية واللغوية، تعبر عن حياة الانسان في ممارساته وسلوكه وتفكيره، بينما الدين يعبّر عن خالق هذا الانسان، وما أنزله من أحكام وقوانين ونظم الى انبيائه ورسله منذ خلق آدم، عليه السلام...

2024-09-17

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، سورة البقرة- الآية:170

 

يعتقد البعض ان من الصعب التقريب من الثقافة والدين، بدعوى أن الثقافة، بكل دلالاتها الاصطلاحية واللغوية، تعبر عن حياة الانسان في ممارساته وسلوكه وتفكيره، بينما الدين يعبّر عن خالق هذا الانسان، وما أنزله من أحكام وقوانين ونظم الى انبيائه ورسله منذ خلق آدم، عليه السلام، ومن ثمّ، فان الثقافة تتطور وتتغير بمرور الزمن مع تطور حياة الانسان، بينما الدين ثابت، وهي حقيقة يقرها الجميع في العالم، وإن كانت ثمة نيّة في “تحديث الدين”، فانه في التطبيقات العملية، او في تفسير النصوص، وهو ما يشغل بال العلماء والمفكرين منذ أمد بعيد، وما يزالون منهمكين في هذا المسعى الفكري.

 

 

أيهما أسبق؟ 

 

توصل علماء وباحثون الى نتيجة مفادها؛ أن الثقافة سابقة على الدين، فما تقوم به الشعوب والأمم من نشاطات وفعاليات في ضوء عادات اجتماعية متوارثة تمثل بالنسبة لهم نوعاً من العقيدة مكسوة بالتقديس، فيكون من الصعب التخلّي عنها، حتى وإن صارت وجهاً لوجه أمام رسالات سماوية مسنودة بأدلة وبراهين عقلية ملموسة على صحّة ما لديهم، وأبرزها؛ المعاجز الخارقة التي يستشعرونها بحواسهم الخمس، ولمسألة الرفض والعناد حديث طويل، نقتطف منه المشكلة النفسية بالتنازل عن شيء واستبداله بآخر في ظروف لا تتوافق مع المزاج والمصالح الموجودة.

 

ويستدل هؤلاء الى شواهد من التاريخ يعدونها وثيقة يوصمون بها شعوب العالم أجمع في تجربتهم لصياغة ثقافة في ضوء الدين، بأن “البرابرة انتحلوا طوعاً شعائر النصرانية، ولكن روحهم ظلت وثنية، والبرابرة هؤلاء، إذ كانوا عاجزين عن إدراك العقائد التي عُرضت عليهم، عبدوا القدّيسين كما كانوا يعبدون آلهتهم غير متحفظين من دينهم الجديد بسوى رجاء الجنة وخوف جهنم”، (حياة الحقائق- غوتساف لوبون).

 

بيد أن هذا الرأي لا يصمد أمام حقيقة الإنسان المتطلع دائماً الى الأعلى، والى ما يرفعه من تراب أصله المادي، الى حيث الرقي المعنوي، بتفعيل مشاعره وقواه الداخلية، ومن ثم تسخير الطبيعة بعقله و بحواسّه الخمس، وهذا كله ما تقدمه الديانات السماوية مبشرة الانسان بحياة سعيدة قابلة للتطور والتحديث على مر الزمان، ولا أدلّ على ما نقول من قيمة “الحب” التي طالما تروج لها الديانة المسيحية، فهي ليست من بناة أفكار البشر، بقدر ما هو اقتباس من سيرة نبي الله عيسى، عليه السلام، كما يتحدث بذلك رجال الدين المسيحيين انفسهم بمختلف طوائفهم.

 

وهذا يعني أن الدين هو الذي يصوغ معالم الثقافة الإنسانية وليس العكس، وقد ناقش القرآن الكريم هذه المعضلة الفكرية بطريقة عقلية رائعة في الآية التي صدرنا بها المقال، بأن الفيصل في الموضوع؛ العقل، الذي لا يحيد عنه انسان سويّ، فهل يحكم العقل باتباع الآباء والأجداد وما لديهم من ثقافة وتقاليد وعادات تنافي العقل والفطرة؟

 

 

الإسلام والتجربة الكبرى

 

لعل السرّ الأكبر الذي اكتشفه الغربيون في نجاح النبي محمد بتأسيسه الحضارة الإسلامية على أنقاض جاهلية سوداء، هي صياغة الثقافة الإسلامية في ضوء الرسالة السماوية التي جاء بها من عند الله –تعالى- متمثلة بالقرآن الكريم، وما تبعها من سيرته وسنته الشريفة.

 

فقد كان عرب الحجاز يفتقدون لثقافة اجتماعية محددة، إنما كانت تحكمهم أعراف وتقاليد نشأت بعوامل مختلفة وصارت لصيقة بسلوك الناس قبل بعثة النبي محمد بينهم، بيد أنه لم يقوّض كل هذه التقاليد والأعراف، إنما جاء مقوّماً لها في تأكيد صريح منه، صلى الله عليه وآله: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” الموجودة في المجتمع الجاهلي آنذاك، مثل إلقاء التحية والسلام بين الافراد، وإكرام الضيف، والشجاعة، ونصرة الملهوف، فحوّل هذه الصفات من سمات شخصية الى نظام اجتماعي عام يعبر عن ثقافة الأمة في كل مكان زمان.

 

بلى؛ حصل التمرّد، والانحراف، و”ظهرت حسيكة النفاق” في شريحة من الأمة، بيد أنه لم يؤثر مطلقاً على سير الركب الحضاري للإسلام في ربوع العالم، لأن هؤلاء كانوا يمثلون انفسهم ويعبرون عن حنينهم الى الجاهلية، وأيضاً؛ مشاكلهم النفسية، بينما ثقافة الإسلام كانت كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، متطابقة تماماً مع الفطرة البشرية، فالقيم الأخلاقية تحاكي فطرة الانسان وحبّه للصدق والأمانة حتى وإن كان هذا الانسان (الفرد) ممارساً للكذب والخيانة، فهو يكره من يكذب عليه ويخونه، وفي خطوة متقدمة أخرى لتحقيق الاندماج الكامل بين الأخلاق والانسان، تأتي الدعوة من القرآن الكريم والنبي الأكرم والأئمة المعصومين الى التهذيب والتقويم النفسي والروحي لتوفير الوعاء الداخلي لإنجاح الممارسة الأخلاقية في الواقع الخارجي وفق قاعدة القول مع العمل، فتكون الأمانة والصدق والتعاون والتقوى والتواضع ذات مصاديق عملية حقيقية، وهذه المنطومة الأحكامية والتشريعية كلها تشكل منظومة ثقافية متكاملة.

 

هذه التلازم الوثيق أعطى قوة ذاتية للثقافة الاسلامية جعلها حيوية تواكب العصور وتطورات الزمن، فمنذ فجر الإسلام تغيّر الكثير على صعيد الأمة؛ مثل أنظمة الحكم، ونظام الاقتصاد، وحتى النسيج الاجتماعي بفعل متغيرات خارجية مثل الاستعمار وغيرها كثير، وظهور دول مبتنية على أسس قومية وعرقية، بيد أن الثابت هو الثقافة الاسلامية الملازمة للثوابت الدينية، والسبب أنها انعكاس لنظام اجتماعي عام وليست فكرة او نظرية من بناة أفكار شخص ما تبشّر بحرية اختيار الانسان ما يرغب الالتزام به، وما يحب و يكره وفق رغبات نفسية عابرة.

 

وقد توصل الى هذه الحقيقة؛ الشعوب والأمم التي دخلت الإسلام منذ فجر الإسلام طواعية عندما لمسوا الدين بثقافته العملية بين المسلمين الأوائل، “ولو أننا تفحصنا التاريخ جيداً فسوف نجد أن الأمم التي دخلت الاسلام لم يكن دخولها بالسيف، والدليل: أن هناك أقليات دينية من اليهود والنصارى وغيرهم تعيش في بلاد الاسلام منذ الفتح الاسلامي حتى يومنا هذا، ولم يتعرضوا للإبادة او الإجبار على ترك المعتقد”،

 

وليست الشعوب وحدها تأثرت بالثقافة الاسلامية وبنت عليها مستقبلها لأجيال متمادية فقط، وإنما تأثرت قوة عسكرية هائلة قادمة من أقصى الشرق، هم المغول الذين ارتكبوا الفجائع المريعة في البلاد الاسلامية بهدف السيطرة عليها عسكرياً وسياسياً، وعلى يديهم كان انهيار الدولة العباسية وغياب الحضارة الاسلامية فيما أطلق على تلك الفترة؛ بالفترة المظلمة، وظهور دويلات مختلفة الاشكال والأعراق من شرق البلاد الاسلامية الى غربها، ولكن! المفاجأة كانت في تأثّر هؤلاء المغول المعروف عنهم الهمجية والعنف والقسوة المفرطة، بالثقافة الاسلامية والتخلّي عما كانوا عليه، فذابوا في الإسلام بشكل غريب، وبدلاً من أن يكونوا محتلين في البلاد الاسلامية، تحولوا الى حكّام مسلمين في هذه البلاد، يحكمون وفق الشريعة الاسلامية، ويحكّمون القيم والمفاهيم الأخلاقية والدينية، كما حصل في ايران والهند، فقد ظهرت سلالات حاكمة عديدة على مدى فترة طويلة من الزمن، وهو ما أثار دهشة علماء الغرب توماس أرنولد في كتابه “الدعوة الى الإسلام” حين قال: “ولكن لم يكن من بدٍ من أن ينهض الاسلام من تحت انقاض عظمته الاولى، كما استطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملهم على اعتناقه، ويرجع الفضل في ذلك الى نشاط الدعاة من المسلمين الذين كانوا يلاقون من الصعاب أشدها لمناهضة منافسين قويين كانا يحاولان إحراز قصب السبق في ذلك المضمار، هما الديانة البوذية والمسيحية، وكل ديانة كانت تنافس الاخرى لكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة”.

 

إن تجريد الثقافة من الدين وتحويله الى ممارسات شخصية يمثل محاولة انتحار معنوي مريع بقطع الجذور عن هذه الثقافة وتعريضها على الموت البطيء، وهذا الموت المعنوي يدفع الانسان الى الموت المادي في قادم الأيام كما جرب هذا الغرب خلال القرن الماضي عندما اخترع لنفسه ثقافة خاصة مرتبطة بالمال والنزعات النفسية والغرائز وكل ما من شأنه التغيّر والتحوّل المستمر، مما دفع الانسان في الغرب الصناعي والتقني في دوامة العمل والانتاج والاستهلاك فوجد نفسه في المصحّات النفسية وأمام المؤلفات والمحاضرات التي تتحدث عن طرق علاج الكآبة والثقة بالنفس، وفي أحسن الافتراضات؛ أن يكون انساناً ناجحاً، مما أجبرهم للعودة قليلاً الى القيم الدينية ودعوة الناس الى الكنيسة والاستماع الى وعظ القساوسة وما من شأنه إعادة الشعور بالحالة الانسانية وفي مقدمتها؛ الحُب، والسلام، لإبعادهم عن العنف والانطواء والعقد النفسية المؤدية الى الانتحار او الجريمة.

 

 

محمد علي جواد تقي

الاخبار ذات الصلة