القيمة الإنسانية لإحياء المولد النبوي

ارتبطت الولادة بالنبوة والرسالة ارتباطا عضويا، فلولا البعثة والنبوة والرسالة ما عرف المؤمنون والمسلمون والموحدون قدر ذلك الرجل العظيم في تاريخ البشرية ومستقبلها. فمن خلال البعثة والنبوة والرسالة استطاع المسلمون أن يرجعوا إلى بداية نشأة هذا النبي الكريم

2024-09-21

الاقتدار النبوي على تحويل حركة الواقع السلبي في زمانه إلى حركة وعي في ضمير الفرد والأمة لإبراز القابليات الإنسانية والدفع بها لبناء الحياة على ضوء النموذج الإسلامي الإلهي يعتبر الإنجاز الأعظم الكاشف عن الخبرة الرفيعة والراقية في إدارة شؤون المجتمع الناتج عن الفهم الواعي والدقيق لأوضاع الناس…

 

جرت العادة أن يحيي المسلمون ذكرى ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأيام من 12 ربيع الأول إلى 17 ربيع الأول من كل عام، بحسب روايات الطائفتين المسلمتين، السنة والشيعة، وتحظى هذه المناسبة باهتمام رسمي وشعبي في العديد من الدول الإسلامية، وقد تستمر الاحتفالات والفعاليات الدينية والاجتماعية طوال شهر ربيع الأول تيمنا بهذا اليوم. وتتنوع هذه الفعاليات بين مؤتمرات وندوات وخطب، وزيارات لمراقد أهل البيت (ع) وتلبية حاجات الأيتام والشباب وذوي الحاجات الخاصة والمعاقين، مثل إطعام الطعام، وتهيئة الكسوة، وتزويج الشباب، وبناء البيوت واطئة الكلفة لمن لا سكن له، وتوزيع الحلوى وإنشاد الأناشيد المرحبة والمبتهلة بقدمه الشريف وغيرها.

 

والسؤال هنا؛ ما هي أهمية استذكار المولد النبوي الشريف للمسلمين؟ وهل حث القرآن الكريم المسلمين على الأخذ من الرسول وجعله أسوة حسنة في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم؟ وماهي التأثيرات الإيجابية لهذه المناسبة على ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم؟ وكيف يتسنى للمسلمين إحياء هذه المناسبة بما يعزز رابطة الوحدة فيما بينهم، وينمي مفهوم (إنما المؤمنون أخوة)؟

 

في الواقع ارتبطت الولادة بالنبوة والرسالة ارتباطا عضويا، فلولا البعثة والنبوة والرسالة ما عرف المؤمنون والمسلمون والموحدون قدر ذلك الرجل العظيم في تاريخ البشرية ومستقبلها. فمن خلال البعثة والنبوة والرسالة استطاع المسلمون أن يرجعوا إلى بداية نشأة هذا النبي الكريم، وإلى نسبه، وإلى الظروف التي أحاطت به، وإلى المواقف التي سطرها قبل البعثة حتى عُرف بالصادق الأمين.

 

وجاء القرآن الكريم، كتاب الله الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ليؤكد على مجموعة من الحقائق المرتبطة بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) والتي كلها تؤكد على وجوب الأخذ من الرسول (صلى الله عليه وآله) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (7) سورة الحشر. وأنه أسوة حسنة للناس (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) سورة الأحزاب. وأنه رسول بالحق، وهو بشير ونذير (إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْـَٔلُ عَنْ أَصْحَٰبِ الجحيم) (119) سورة البقرة. وهو رسول مكلف بتلاوة هذه الآيات لغرض التزكية والتعليم والحكمة (كما أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ) (151) (البقرة) وأن وجوده بين المؤمنين هو منة من الله وفضل عظيم (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ) (164) سورة آل عمران. وأن إطاعة الرسول من إطاعة الله (مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (80) سورة النساء.

 

فحياة الرسول الأعظم (ص) كانت مثالاً ونموذجاً واضحاً للحياة الإسلامية، فهو الإنسان الكامل المختار من قبل رب العباد لإيصال رسالته الخالدة والخاتمة إلى الناس أجمعين، وهو المرسل رحمة للعالمين قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، وهو الإنسان النموذجي والمربي المرشد لأتباعه وللإنسانية جمعاء وإرشاداته القيمة كانت تشمل جميع الناس في السلم والحرب فالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام هو ذروة الإنسان الكامل وأحسن الناس خَلقاً وخُلقاً. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب/ 45-46)؛ فالرسول (ص) كان سراجاً منيراً… كان ينير الجوّ بأخلاقه، بمسلكه، بطريقة عمله، بتعامله، بعلمه، بحكمته.

 

كان الرسول العظيم (ص) أميناً، وصادقاً، وصبوراً، ومتواضعاً وشهماً ومدافعاً عن المظلومين في كافّة الحالات. كان سلوكه سليماً وكان تعامله مع الناس يقوم على أساس الصدق والصفاء والصحّة. كان حَسَنَ الكلام، كان طاهراً، معروفاً بالعفّة والحياء والطهارة وكان الجميع يقبلونه ولم يكن متلوّثاً بأيّ شيء. كان شجاعاً ولم تتمكّن أيّ جبهة من الأعداء مهما كانت عظيمة أن تفتّ من عضده أو تخيفه. كان صريحاً، يوضّح كلامه انطلاقاً من الصراحة والصدق. كان في حياته حكيماً وزاهداً كما كان رؤوفاً متسامحاً كريماً. وكان يعطي المال ولا ينتقم، كان سموحاً وعَفُوّاً.

 

ويمكن التركيز على ثلاث مبادئ أساسية دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته ورسالته، وهي: التوحيد، ومكارم الأخلاق، وتنظيم حياة الإنسان.

 

1. مبدأ التوحيد: التوحيد في مقابل الشرك، ومعناه أن الله عز وجل واحد، وليس متعددا، فهو ليس أثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، فقد قال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {الأنبياء:22}.) ويعد التوحيد حق من حقوق الله على عباده، فان أمنوا أنه أحد صمد فان الجنة جزائهم، وإن أصروا على الكفر به أو إشراكه مع آخرين بعناوين متعددة كانوا من أهل النار. والتوحيد هو أهم الأصول الاعتقادية في الإسلام، يؤكد على أن الله واحد، وليس له مثيل، ولا جزء له، ولا شريك له في خلق العالم. فأول ما هتف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في بدء دعوته إلى الإسلام كانت كلمة التوحيد والشهادة على أحادية الله، ونفي الشرك. وللتوحيد مكانة خاصة في القرآن الكريم، وروايات أهل البيت (ع) فمضمون سورة الإخلاص أيضاً هو التوحيد.

 

وقسم العلماء التوحيد إلى مراتب هي: التوحيد الذاتي، وهو الاعتقاد بوحدانية الله، ومن ثمّ التوحيد الصفاتي، وهو الذي يدل على أن صفات الله وذاته أمر واحد، ثم التوحيد الأفعالي الذي يقصد به الاعتقاد بأن موجودات العالم مخلوقة لله تعالى وتابعة له وغير مستقلة عنه في فعلها، والتوحيد العبادي، أي أن لا أحد سوى الله يستحق أن يُعبد. وفي هذه المراتب الأربعة يعتبر التوحيد الذاتي أولي المراتب، والتوحيد الأفعالي أعلى مراتب التوحيد.

 

2. مبدأ مكارم الأخلاق: كان رسول الله (ص) قمة في الأخلاق الطيبة، وقد اهتدى ببركة أخلاقه الكثير من المشركين والكافرين والمنافقين وغيرهم إلى الإسلام. حتى قال في حقه الباري عز وجل في سورة القلم: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ)، وقال ابن شهر آشوب في (المناقب): كان النبي (ص) أحكم الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعدلهم، وأعطفهم وأسخاهم، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء. وكان (ص) يجلس على الأرض وينام عليها ويخصف فالنعل ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولم يتجشأ قط، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد.

 

إنّ أهم عوامل انتشار الإسلام تكمن في حُسن أخلاق الرسول (ص) ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام)، قال الله عزّ وجلّ مبيناً سرّ انتشار الإسلام وكثرة أتباعه مخبراً رسوله الكريم (ص) صاحب الأخلاق الكريمة (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران 159)، وكان الرسول (ص) يذم سوء الخلق فيقول (سوء الخلق شؤم وشراركم أسوؤكم خلقاً) وقال أيضاً (أكثر ما تلج به أُمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق) وقال أيضاً (أدبني ربي فأحسن تأديبي).

 

يقول ادوارد لين الإنكليزي في كتابه “أخلاق وعادات المصريين”: إن محمداً كان يتصف بكثير من الخصال الحميدة، كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، كيف لا، وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته بصبر وجلد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد من يصافحه حتى ولو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمر يوماً من الأيام بجماعة رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وقد كان محمد غيوراً ومتحمساً، وكان لا يتنكر للحق ويحارب الباطل، وكان رسولاً من السماء، وكان يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، كما أنه لم ينس يوماً من الأيام الغرض الذي بعث لأجله، ودائماً كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البلايا، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد.

 

3. مبدأ تنظيم حياة الناس: في إطار مبدئي التوحيد والأخلاق كان مبدأ الدعوة إلى تنظيم حياة الناس الشخصية والاجتماعية والسياسية والقانونية من أهم المبادئ التي أشتغل عليها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنها:

 

أ. توحيد المسلمين وجمع شملهم في المدينة المنورة بعد الهجرة: فقرّب بذلك بين النفوس، خاصة وأن المهاجرين هم من الذين لا تربطهم بالأوس والخزرج من أهل المدينة أي رابطة من دم أو عشيرة أو ما شابه من الروابط المعروفة عندهم آنذاك، ليكون ذلك التوحيد إشعاراً بأن الإسلام هو الذي يجمع ويوحد ويؤالف، ولهذا نجد أن الله سبحانه قد امتدح نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على جمعه للمسلمين ونشر المحبة والتآخي بين كل أولئك الفرقاء المتنازعين كما قال سبحانه: (… وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا… ).

 

ب. تحصين مجتمع المدينة المنورة: لأن النواة الأولى للدولة الإسلامية التي تشكلت في المدينة كانت تحتاج إلى أجواء هادئة ولو لمرحلة معينة لتنظيم شؤون تلك الدولة، وهذا ما استدعى تحصين المدينة بطريقة تمنع الاختراقات أو تمنع استغلال بعض الناس من غير المسلمين كاليهود والذين كانوا يسكنون المدينة وأطرافها، فكانت المعاهدة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهؤلاء اليهود، وهدفت إلى إقرار مبدأ التعاون وحرية الاعتقاد والدفاع عن المدينة بوجه كل الطامعين وخاصة “قريش” وحلفائها الذين كانوا مازالوا في غيهم.

 

ج. إدارة قضايا الحرب والسلم: من الطبيعي أن قريشاً لم تكن تشعر بالارتياح لتأسيس مجتمع إسلامي في المدينة باعتبار انه النقيض لها والبديل الذي يريد له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تؤمن به الناس، وكانوا يعلمون أن مركزهم الرئيسي وهو “مكة” هو هدف أساس لحركة النبي (صل)، ولهذا كانوا يضايقون المسلمين بعد الهجرة من خلال السرايا التي كانوا يرسلونها، من هنا نجد أن النبي (ص)، وبعد الاطمئنان إلى سلامة مجتمع المدينة ولو نسبياً وضمان عدم الاختراق من غير المسلمين، انصرف إلى الإعداد والتهيئة والتفرغ لقتال قريش من ضمن جدول الأولويات على مستوى الأهداف الرئيسية باعتبار أنها تمثل الرمز الأول الذي بسقوطه تتغير كثير من الظروف والأوضاع، وقد أذن الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتال، لأنه كان في موقع الدفاع وذلك بقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ… ﴾.

 

د. التسامح واللين مع الأمة: وهذه الصفة التي كانت بارزة في شخصية النبي (ص) لعبت دوراً مهماً في جذب الكثيرين إلى الإسلام أو تثبيت المؤمنين به، وقد امتدح الله هذا الخلق النبوي الكريم في العديد من الآيات كما في قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ… ﴾، وهذا التسامح كان نابعاً من الحكمة النبوية في استيعاب الأمور الصغيرة من سيئات الناس والقضايا التي يمكن التجاوز عنها لما فيه من مصلحة وتقوية للإسلام، حتى ورد عنه (ص قوله: ((أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة)) ولعب هذا الأسلوب الحكيم من التسامح واللين دوراً أيضاً في تقوية الروابط بين المسلمين ورص صفوفهم أكثر.

 

وقد تجلى هذا الأمر بعد فتح مكة حيث كان المشركون خائفين على أرواحهم بسبب ما اقترفوه من الجرائم ضد الإسلام والمسلمين من القتل والصد والتعذيب ونهب الأموال وسلب الممتلكات، وكان على رأس هؤلاء “أبو سفيان” الذي حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا هوادة، ومع هذا نجد الرسول الأعظم (ص) عند فتح مكة يقول: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن))، ثم قال كلمته المشهورة، لأهل مكة وهم الذين فعلوا به ما فعلوا (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

 

هـ. وأمرهم شورى: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على مبدأ الاستشارة في الأمور، وعدم الاستبداد في الرأي، كما نص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) وقال عزوجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) فإن الأمور تكون بالشورى إلاّ فيما ورد فيه النص عن الله عزوجل أو المعصوم، حيث لا يجوز الاجتهاد في قبال النص. وكان رسول الله (ص) يطبق الاستشارة بنفسه، كما استشار في قصة الخندق، وحرب أحد، وغزوة الخندق، وحتى في اللحظات الأخيرة من حياته عندما نزل عليه ملك الموت…

 

ولهذا، فإن الاقتدار النبوي على تحويل حركة الواقع السلبي في زمانه إلى حركة وعي في ضمير الفرد والأمة لإبراز القابليات الإنسانية والدفع بها لبناء الحياة على ضوء النموذج الإسلامي الإلهي يعتبر الإنجاز الأعظم الكاشف عن الخبرة الرفيعة والراقية في إدارة شؤون المجتمع الناتج عن الفهم الواعي والدقيق لأوضاع الناس، ولقيادتهم ورعايتهم والسير بهم نحو كمالهم.

 

المصدر: جميل عودة ابراهيم