بشهادة خبراء مصريين “عدوان البيجر”.. إرهاب بغطاء دولي

لمن نكتب، ولماذا نكتب، ولمَ اليوم.. أسئلة ضرورية قبل البدء في أي حديث عن جريمة الإبادة الجماعية الموصوفة بالإصرار والترصد من جانب العدو على أهلنا في لبنان، نكتب للشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، أصحاب تاج المجد الإلهي، وفاءً لدمائهم الزكية، نكتب وعدًا وعهدًا وتوثيقًا لإحدى أبشع الجنايات التي شهدتها الحروب، على ما بها من جراح وألم ونزف، نكتب اليوم قسمًا إلى هؤلاء وأولئك أن هذه الدماء ستكون هي القلب النابض الملتهب للتحرير، لا نكتب اليوم للبنان الحزين الذي يعض على جراحه، بل نكتب للبنان الذي كان –ولا يزال وسيبقى- الدم الذي انتصر على السيف في تاريخنا الحديث.

2024-09-22

نكتب اليوم لغرس أو جيل جديد، لا نريده مصابًا بالنسيان، آفة العقل العربي، بل نحبه وهو يحفر بسكين ساخن في ذاكرته ووعيه تواريخ مجازرهم ومآسينا، نريد جيلًا ساعيًا إلى الحق، مشحونًا بالغضب والعنفوان، يعرف أن قدره هو الثأر، نكتب للذاكرة وللدم والإنسان.

 

دارت الأيام دورتها الكاملة، وعاد كيان العدو إلى طريقته الأولى والمفضلة حين يعجز في ميادين النار أمام صمود الرجال وبأسهم، يختار الحرب القذرة أمام حزب الله ولبنان، وهو سبيل طالما جربه وطوره واستفاد منه في مواجهة الشعوب العربية، ولا تزال الدماء الزكية في دير ياسين وبحر البقر وقانا الأولى والثانية شاهدة على عدو خسيس فاجر، بلغ من الحقد وممارسة الإجرام ما يفوق حد تصور الشياطين، بدفع ودعم من الشيطان الأميركي الأكبر الذي يضمن له استمرار حالة اللا مبالاة غير المسؤولة لدول العالم ولمنظمات القضاء الدولي المختص بتلك الانتهاكات.

 

بالأمس كما اليوم، جاء رد العدو الصهيوني على البسالة والتضحية وروح الاستشهاد التي تملأ قلوب الرجال على جبهة العز في جنوب لبنان، ردًا غبيًا يحركه الحقد وينم عن الخسة، ليس ما جرى –أولًا- عملًا تقنيًا مذهلًا، ولا هو عملية عبقرية في تخطيطها وتنفيذها، بغض النظر عن آراء بعض الباحثين، فإن ما جرى كان عملية مخابراتية قذرة، يمكن لها النجاح بقدر من المال أو النفوذ الأميركي، أو كليهما معًا، على شركات تعبد المصالح والأرباح، فأُرسلت في النهاية شحنة الموت للأبرياء المدنيين في لبنان، هذا أولاً ما يجب أن يتوقف العقل العربي عنده، فكما أن التاريخ ليس خاليًا من الصدف، فهو من باب أولى لن يخلو من المؤامرات.

 

الكيان في ميزان القانون الدولي

 

انتهك العدو بشكل فاضح كل قانون دولي إنساني، وكل الحقوق والمواثيق الإنسانية العالمية التي تحمي المدنيين في حالات الحروب والنزاعات، على رأسها تعريض حرمة الأمن الشخصي للأفراد المدنيين للخطر الذي نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على احترامه وصيانته، ثم ضرب بعرض الحائط كل اتفاقيات جنيف الصادرة عام 1949 والمتعلقة بحماية المدنيين، وتجريم استهدافهم في أثناء الحروب. علمًا أن تلك الاتفاقيات الأربع تعتبر جوهر القانون الدولي الإنساني في أساسه وهي تضع قواعدًا للحروب العسكرية، توفر من خلالها غطاء لحماية المدنيين وتحظر تعريض حياتهم للخطر، أو قتلهم عمدًا في حال الحرب.

 

وبذلك يكون كيان العدو قد كسر بعدوانه ومجزرة “البيجر” ثلاث قواعد أساسية في القانون الدولي الإنساني، وهي قاعدة التناسب التي تمنع شن أي هجوم واسع من شأنه إيقاع أضرار كبيرة بين المدنيين، وقاعدة التمييز التي تحتم على الأطراف المتحاربة التفرقة بين المدنيين والمقاتلين، وعدم جواز استهداف المدنيين بشكل مطلق، والقاعدة الثالثة هي الضرورة العسكرية، بحيث تتخذ الأطراف المتحاربة كل الاحتياطيات اللازمة لتجنيب المدنيين القتل في عملياتها العسكرية.

 

ويكون الكيان الغاصب بذلك أيضًا، قد استهدف من خلال “عدوان البيجر”، قتل المدنيين بعيدًا عن جبهة القتال، وتجاوز المبدأ الأول في القانون الدولي الإنساني الذي يحظر قتل المدنيين، ويعتبر أن الهجوم المقصود على المدنيين جريمة حرب، وقد ترقى إلى حد الجرائم ضد الإنسانية إذا ما ثبت أن الهجوم قد طال عددًا كبيرًا من المدنيين وفي مناطق واسعة، وهو ما وقع بالفعل في “عدوان البيجر” بلبنان.

“الأشعل”: عدوان “البيجر” عمل إرهابي تعمد قتل المدنيين

 

انتهاكات العدو المتعددة الأوجه في مجزرة تفجير أجهزة الاتصال التي ارتكبها، علّق عليها  السفير عبد الله الأشعل، مساعد وزير الخارجية المصري السابق وأستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة القاهرة، فقال :”إن العدوان الصهيوني على الشعب اللبناني يعد عملًا إرهابيًا، رغم أن الإرهاب مفهوم نسبي وتعريفه المحدد مستحيل، لكننا نقول إنه عملية إرهابية بمعنى إنه يرهب الآخرين، والكيان الصهيوني قام بهذا العمل حصرًا لإرهاب المدنيين اللبنانيين، لحثهم أو دفعهم لعدم مساندة مقاومة حزب الله، وهي خطة صهيونية طويلة الأمد لضرب بيئة المقاومة واستعدائها”.

 

وفي تصريحات خاصة لموقع “العهد الإخباري”، أضاف الأشعل أن الثابت في “عدوان البيجر” هو تهمة ترويع المدنيين الآمنين، غير الأطراف في القتال، وهذا يعتبر بامتياز “إرهاب دولة”، ويعتبر قتلاً متعمداً للمدنيين، ويمكن محاسبة الكيان على هذه الجريمة وحدها بشكل مستقل، باعتبارها قد قتلت المدنيين عمدًا، موضحًا أن منطق القانون الدولي يبيح في أثناء الحروب جميع التصرفات، عدا استهداف المدنيين أو خطف الرهائن، وتبيح ذلك للمقاومة فقط، المقاومة يباح لها في القانون الدولي ما لا يباح للدول”.

 

وأكد “الأشعل” أن الدولة اللبنانية هي التي تستطيع أن تقاضي الكيان الصهيوني، فالدولة اللبنانية من الناحية القانونية والواقعية هي التي تستطيع مطاردة الكيان في أروقة التحكيم الدولي، أما عن حزب الله فهو حركة تحرر وطني، والقضاء الدولي يعترف بالكيانات الدولية، ويضيف أن الضحايا لن يستطيعوا مقاضاة الكيان، إذ إن رفع القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، باتهام للقادة الصهاينة، يحتاج إلى الدولة.

 

وتابع “الأشعل”، أن الكيان ارتكب مجازر وجرائم عدة في كل العالم العربي، لكن جرائم المشروع الصهيوني هي قرين لازم لوجوده، طبيعته تنفيذ المجازر الإرهابية، لتفريغ الأرض من سكانها، ثم توسعة حدوده في المراحل التالية لتضم كل الشرق الأوسط الكبير الذي تحدث عنه “شمعون بيريس”، في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، أي أن “إسرائيل” تريد ابتلاع العالم العربي كفريسة، وفي هذه الحالة فإن ممارسة الجرائم ضد الإنسانية والإرهاب والمذابح يصبح أمرًا متسقًا مع الإستراتيجية الصهيونية، بحق كل شعوب المنطقة.

 

وخلص خبير القانون الدولي عبد الله الأشعل إلى أن الكيان الصهيوني هو ثمرة فكر العصابات، مميزًا بين الديانة اليهودية والصهيونية التي نحن بصددها، فالصهيوني يرى النفس البشرية باعتبارها لا شيء، باعتبارها حضيضاً يتوجب إزالته وإبادته وهذا شغل عصابات، والكيان في هذا الموقف عبارة عن قرصان على سفينة، لا ننتظر منه غير ذلك.

 

“فهمي”: جريمة إبادة

 

من جهته، يقول الدكتور طارق فهمي الأستاذ المتخصص في العلاقات الدوليّة والعلوم السياسية، إن “توصيف عدوان البيجر على لبنان لا يمكن أن يكون إلا جريمة ضد الإنسانية وممارسات إجرامية صهيونية، وفقًا للقانون الدولي، لأننا أمام إصابات تقترب من 5 آلاف وفقًا للمصادر المعلنة”، مضيفًا أن “(الأمين العام لحزب الله) السيد حسن نصر الله أصاب الحق حين وصف هذا العمل بأنه غير مسبوق في هذه المواجهة”.

 

وفي تصريح خاص لموقع “العهد الإخباري” يؤكد الدكتور طارق فهمي أن هذا العمل الواسع خرق بلا شك للاتفاقيات الدولية والقانون الدولي الإنساني، ورغم أن الكيان لم يعلن مسؤوليته عن الحادث، إلا أن كل التصريحات والشواهد تؤكد أنه عمل صهيوني تمامًا، لكنه ينتمي إلى الأعمال الاستخباراتية والأمنية، وبالتالي فإننا في انتظار نتائج تحقيق يعقبه رفع القضية للجهات الدولية المختصة، مثل المحكمة الجنائية الدولية”.

 

ويضيف “فهمي” إن تبني القضية اللبنانية مهم للغاية أمام القضاء الدولي في هذا التوقيت، مع استمرار المأساة الإنسانية في غزة، موضحًا أن لبنان أمام جريمتين: “حرب إبادة” و”استهداف المدنيين”، وبغض النظر عن أية ذرائع أو قواعد فإن تدمير أجهزة اتصال “البيجر” يحملها المدنيين والعاملين بالقطاع الصحي، يعني أن الغرض منذ البداية لم يكن عسكريين أو عناصر يحتمل انتماؤهم لحزب الله، لكن المدنيين الأبرياء”.

 

“الشوبكي”: إدانة وفضح الكيان ضرورة

 

بدوره، انتقد الدكتور عمرو الشوبكي، الباحث السياسي الكبير والنائب السابق في البرلمان المصري، تقصير المنظمات الدولية، مشيرًا بالتحديد إلى مسألة مقاضاة الكيان “الإسرائيلي” قضائيًا، ومذكرًا أنه على مدار ما يقرب من عام كامل من حرب الإبادة في غزة فشلت كل محاولات المجتمع الدولي، مثل جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، والجنائية الدولية لإصدار قرار بالقبض على نتنياهو وعدد من قادة العدو، ولم يصدر عن مجلس الأمن طوال تلك المدة الطويلة سوى قرار يتيم بفرض هدنة إنسانية ثانية، لم تستخدم واشنطن “الفيتو” ضده، ورغم ذلك لم ينفذ، أيضًا توصية محكمة العدل الدولية بعد مرافعة جنوب أفريقيا بحماية المدنيين لم تترجم لأي إجراء.

 

و أكد :” أن حديثه لا يعني أبدًا الاستسلام لليأس من المحاولات، مشددًا على أن الأطراف العربية يجب أن تصر على إدانة جرائم “اسرائيل” وفضحها، أمام الرأي العام الدولي والضمير الإنساني، خالصًا إلى أن التعويل على فكرة المقاضاة وحدها كحل للجرائم الصهيونية ليس هو الإجابة، ومنتهيًا الى أن المشكلة أصبحت أعمق، لأننا أمام كيان محصن وفوق القانون الدولي، ويمثل استثناءً من قرارات الأمم المتحدة، ولا يلتزم بأي قرار دولي، وهو يرتكب جرائمه مقدرًا مقدمًا أنه سيفلت من أي حساب.

 

الإرهاب الصهيوني

 

كان منطقيًّا بالنسبة لوحشية العدوّ وشرّه وحقارته وجبنه وحقده أن يلجأ في مواجهة هذا الصمود المعجز إلى رفع مستوى إجرامه على نحو جديد يفوق حدود تصورنا، وحتّى ما يتصوره غيرنا، بإقدامه على استهداف شامل للمدنيين في لبنان عبر أجهزة اتصالات. مدنيون عاديون تلقوا جرعة حادة من الإجرام الناري الصهيوني. لجأ الصهيوني إلى الجبهة الداخلية لرمزيتها وثقلها الشديد على النفس السوية، أنت لا تقتل فحسب، أنت تقتل بشرًا لم يقربوا ساحات القتال. يعيد الصهيوني بوعي أو بغير وعي استنساخ أقذر سيناريوهات الشر التي عرفها الإنسان، وكلّ  هذا في مواجهة مدنيين ضعفاء، وفوق كلّ هذا الغدر فإنه يكسر في عدوانه كل الخطوط الحمراء، مستهدفًا تصدير “القلق والموت” إلى الداخل اللبناني، لكن الفارق المذهل أن بيئة حزب الله لم تهتزّ  ولم تنكسر، ولا تفكر حتّى في غير الانتصار.

 

مع الفشل العسكري الكامل اختار الكيان إستراتيجية جديدة/قديمة، هي “التسويق” لوهم الألاعيب الشيطانية، وحاول بدناءة مخطّطاته والمؤامرات الأميركية أن يجعلها مغامرة سهلة، ودون حتّى أن يطلق رصاصة واحدة، واستطاع عبر وسائل إعلام عربيةِ الاسم صهيونية الهوى أن يزرع في بعض الأفرقاء الخوف والهلع من المواجهة، لكن خيبته الكبرى كانت في بيئة المقاومة في جنوب العز الصامد، وتفاعل الشعب اللبناني مع الجريمة، إذ كشف العدوان عن المعدن النفيس لهذا الشعب الأصيل، طوابير للتبرع بالدماء، ومستشفيات تحولت إلى خلايا نحل لمجابهة العدد الكبير للمصابين، ودعوات التبرع بالأعضاء التي انطلقت وتبناها الآلاف عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أهل الجنوب كتبوا مرة أخرى، وعلى جدران قلوبهم بالدم، كلمات سماحة السيد في أول أيام عدوان تموز 2006: “أنتم لا تعرفون من تقاتلون، أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي وأهل بيت رسول الله وصحابة رسول الله. أنتم تقاتلون قومًا يملكون إيمانًا لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية”.

المصدر: العهد