موناسادات خواسته
تمر علينا ذكرى أيام الدفاع المقدس، التي تُذكرنا ببطولات المناضلين والشهداء للدفاع عن وطنهم في الحرب المفروضة، وتَركَ الدفاع المقدس آثارا كثيرة على مختلف شرائح المجتمع ومنهم الفنانين، فمنهم رسّامو اللوحات الفنية الذين قاموا بتوثيق مشاهد التضحية والشهداء بريشتهم الفنية، ومنهم المفكّر والمؤلّف والفنان الإيراني الدكتور “محمدعلي رجبي دواني” الذي هو أستاذ جامعي وباحث وخبير في مجال فلسفة الفن وله مؤلفات وآثار قيّمة، وعضو دائم في أكاديمية الفنون الإيرانية، ففي أسبوع الدفاع المقدس أجرينا حواراً معه وسألناه عن الفن الثوري وتأثير الدفاع المقدس على الفنانين، وأسلوب فناني الثورة مثل المرحوم “حبيب الله صادقي”، الفنان الذي هو من جيل رسّامي الدفاع المقدس وله لوحات رائعة وخالدة في هذا المجال وظل وفياً للشهداء حتى نهاية حياته. وفيما يلي نص الحوار:
الفن الثوري
بداية، تحدث الدكتور محمدعلي رجبي دواني عن ملامح الفن الإسلامي والثوري في الرسم واللوحات الفنية، حيث قال: الفن الثوري هو الفن الذي حدث فيه تحول جذري، هذا هو المعنى العام للفن الثوري، بمعنى أنه تخطى الحدود والأشكال الشائعة التي أصبحت عادات فنية، وأظهر شكلاً جديداً لكي يظهر بهذا الشكل الجديد حيث يتم إنشاء عالم جديد في أذهاننا، وأنا أعتبر هذا هو المعنى العام للفن الثوري؛ لكن عندما نتحدث عن اللوحة الثورية، فهي لوحة موضوعها “ليس فقط بمعنى أنها موضوع أشخاص ثوريين ويمتلكون أسلحة”، لا، بل عندما ننظر إلى العمل، نشعر أن هناك تحركاً أو انتفاضة ضد الظلم أو ضد الوضع غير المناسب، مثلاً عمل الفنان الفرنسي “بول غوغان”، هو العمل الذي اعتبر المزهرية والبسمة اليابانية فيه عملاً ثورياً، وهو عبارة عن مزهرية في الرأس وفيها زهور مجففة، وخلفها صورة الساموراي الذي يسحب سيفه ويتقدم، هذا عمل ثوري لأنه يحتج اليوم على الغرب، ويصور الشخص الذي وقع في حضن الغرب، رأسه إناء ومزهرية جفّت فيه الزهور، أي أفكاره جفّت، واليوم يجب على الشرق أن يتحدث نيابة عنّا، في ذلك الوقت الذي كان فيه “غوغان” كانوا يعتقدون أن الشرق هو الصين واليابان، وهذا فكر ثوري في سياقه الخاص، ولذلك ليس من الضروري مثلاً أن تكون الطبقات المحرومة في المجتمع هي التي انتفضت، بل هو فن ثوري، ولكن بمعنى أن لديه حديث ضد الوضع الراهن الخاطئ، وهذا هو الفن الثوري من الناحية الإجتماعية والثقافية.
الدفاع المقدس في اللوحات الفنية
وعندما سألنا الأستاذ عن السمات المميزة للوحات التي تتطرق إلى موضوع الدفاع المقدس، هكذا ردّ علينا بالجواب: الفنان يتحدث دائماً بالإشارة، في الحقيقة “الإشارة” هي القضية الأساسية وهذه الإشارات قد تكون أحياناً كلمات، ومنها كلمة “الشهيد”، عندما نذكر الشهيد؛ على الفور يصبح هذا فناً ثورياً، لأننا نرى أن الشهيد هو من انتفض ضد الظلم، فموضوعنا، هو النضال ضد الظلم، وفي الحقيقة وسيلة تعبير حتى لو نعطيه أي عنوان آخر، حتى لو رسمنا وجه الشهيد فهو وجه ثوري، ولو قمنا برسم شبيه له، فهذا ترويج للثورة.
حتى اسم الشهيد المكتوب في الشوارع هو حركة ثورية بصرية، وكذلك صورة الشهيد على الجدران، حتى لو لم يكن هناك شيء، فهي دعوة لنا إلى الهدف الذي ذهب الشهيد من أجله، إذن، بحسب ما يقوله السيميولوجيون، كل صورة هي نص وكل نص يظهر حقيقة.
نصوص الثورة، بقدر ما تظهر فيها بوادر حركة ضد القمع والظلم، أو دعوة وأمل لمستقبل مشرق، كل آثار الثورة، تعبّر عن الإنتفاضة.
وهذه إحدى خصائصها، وهي تبعث مع الانتفاضة، الأمل بمستقبل مُشرق، فمثلاً إذا كان الموضوع عن صاحب الزمان(عج) فنحن نعلم أنه لا يمكن تقديمه كإنسان قادم فقط، بل علينا أن نرى لماذا يأتي؟
وفي ذلك العمل الفني لابد من الإشارة إلى أنه يأتي لإرساء العدالة، فهو فن ثوري، أي كل تلك الرموز التي هي تجليات للمعاني، تصبح بالنسبة للفنان محوراً للعمل الفني.
لوحة “معراج الشهيد”
وبعد ذلك تطرقنا إلى لوحات الأستاذ وميزاتها ومنها لوحة “معراج الشهيد” المشهورة، فقال: لدي لوحتين، إحداهما لم يتم إزاحة الستار عنها بعد، وكلاهما متأثر باستشهاد تلميذي “مجيد بهرامي”، وهو كان مراهقاً ذهب إلى ساحة الحرب واستشهد وعاد جسده الطاهر المحترق، أحد أعمالي هي العلاقة بين الشهيد ووالدته، واللوحة الأخرى عن علاقة الشهيد مع والده.
أصبحت اللوحة التي فيها الأم الآن رمزاً ليوم الشهيد في إيران، وهي مرسومة على الجدران في جميع أنحاء إيران، ويوجد أصلها في متحف الشهداء بطهران.
نرى في هذه اللوحة أن الملائكة جاءت لتستقبل الشهيد وترحّب به وتريد أن تأخذه، فهناك عدة ملائكة، وقد أحضر أحد هؤلاء الملائكة ثوباً ورداء مكتوباً عليه الأسماء الإلهية، وذلك الرداء يخص الشهيد نفسه، ومكتوب على ذراعه أيضاً “الحي” أي أن هذا هو الملك الذي يريد أن يمنح الشهيد الحياة الأبدية، وقد جاء بهذا الرداء.
وهناك مَلك آخر جاء بفواكه من الجنة، ولكل نوع من هذه الفواكه إثنتان، مما يدل على أن واحدة للأم وواحدة للشهيد، وكذلك ملك آخر أحضر زهرة، هذه الزهرة أيضاً اثنتان، واحدة للأم والأخرى للشهيد، وهناك نور على كل هؤلاء، أي أن هذه الفواكه والزهور تأتي من مكان آخر، وهو عالم من النور.
والمـَلك الآخر عند الأم يتكلم مع الأم وفمه مفتوح وله دمعة في عينه وهي علامة على دموع الفنان، الذي دمع هذه الدمعة، وهناك ملك آخر حزين جاء ليعزي الأم ويتعاطف معها، وأيضاً هناك طيور الجنة جاءت من السماء وفي مناقيرها زهور سماوية، وهذه هي وعود الله التي جاءت بهذا وترافق الشهيد الذي يريد العبور من ممر الدنيا، وهذا الممر هو نفس العالم الذي قفزت فيه التنانين والحيوانات الأخرى معاً، وكل واحد أقوى يمزق الآخر، ونرى هناك فيه أيضاً آية مكتوبة عليها “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” (الأنعام/ 32)، مما يعني أن الدنيا كلها هكذا، والذي يبقى حياً هو عالم الآخرة، وهذه الصورة التي مرسومة من الدنيا ليس لها عمق وهي كالورقة، وصورة الشهيد في مكان آخر غير هذه الدنيا وفي مكان فيه زهور وخضرة.
وفي هذه اللوحة وجه الأم مهم جداً، فالأم خارج عباءتها (التشادر) بلون أزرق، أي أنها كلما أخذته هو من الملكوت، ولكن داخلها باللون الأحمر، وهو علامة تربية الشهيد للإستشهاد، والشهيد أيضاً يلبس ثوباً أصفر مائل إلى لون التراب والذي يدل على أنه من عالم التراب ولكن مع عصبة على جبهته وهو يشم رائحة الملائكة كأنه يريد أن يستيقظ، لكن وجه الأم مهم هنا بما أن عيناها تبكي ولكن شفتيها تضحك، وهو ما يشير إلى نفس الصفات التي قالها الله في القرآن الكريم.
وهذه ليست نوعاً من الدعوة إلى الحرب والصراع، وليست دعوة إلى هذه القضايا، ولكنها تبيّن موقف الشهيد وعائلة الشهيد وأم الشهيد، ومكانتهم، والأم التي جاءت حتى باب الخروج من الدنيا لكي تودّع ابنها الشهيد، وتسليمه إلى الملائكة ليأخذوه، وسموا هذه اللوحة “معراج الشهيد”، بما أن يعتقد الإمام الخميني(رض) أن المرأة المؤمنة توصل الرجل إلى المعراج، كان إسماً جيداً ووافقت على تسميته.
لوحة “العهد الإبراهيمي”
ويضيف الأستاذ: لدي لوحة أخرى رسمتها لوالد الشهيد، في تلك اللوحة نرى أن هناك مكان كل شيء فيه من ذهب وهو في عالم بعيد، وقارنت عمل الأب بعمل الإبن، حيث أن الإبن من حرس الثورة وفي يده سلاح، وهو يقبّل يد الأب ويودّعه، ويريد الرحيل، ويريد الأب أيضاً أن يضع عصابة رأس على جبهة إبنه، وفجأة، بدلاً من الملاك، جاء طير سماوي كبير من الجنة ويحضر باقة من الزهور للأب، وعلى الجانب الآخر هناك خروف يهبط وينزل، ومن يرى اللوحة يقول إنها تذكرنا بإبراهيم وإسماعيل، ولهذا سميت اللوحة “العهد الإبراهيمي”، يعني أننا نعد الآباء أنه إذا أرسل الأب ابنه إلى ساحة القتال طواعية، فإنه سيشارك في أجر ابنه الشهيد، مثل إبراهيم الذي نجح في الإمتحان بشكل صحيح، وهناك تفاصيل أخرى لهذه اللوحة.
هذا النوع من التعبير هو تعبير فلسفي نظري وتاريخي وعاطفي وهو من الثورة، أي أن الشخص الذي يرى هذه اللوحة يتوصل إلى هذه المعاني ويقلّب المشاهد، لأن الرسام نفسه أولاً تحوّل وقلبه يتجه إلى هذا الجانب، وقالت نساء الشهداء أننا لم نكن نعلم بهذه القضايا، لكن هذه اللوحة التي رأيناها كانت عزيزة علينا جداً، وعندما تقدّم لنا مؤسسة الشهيد صور هذه اللوحة، نقوم بتأطيرها ووضعها في منازلنا، وهذا مجرد مثال.
الفنان الثوري “حبيب الله صادقي”
ويتابع الدكتور محمدعلي رجبي دواني: عمل أساتذة كبار في هذه المجالات، مثل المرحوم “حبيب الله صادقي”، الذي عندما رأى أن العمل المنجز للشهيد الحبيب الحاج قاسم سليماني لا يرقى إلى مستواه، جاء وبدأ العمل على مساحة 100 متر مربع، وعلى الرغم من أنه كان مصاباً بمرض السكري وكان باطن قدميه مؤلماً وفيه جرح، وأخبروه أن الجرح يصل إلى قلبك ويدمرك، لكن صادقي قال: “إن هذه وصيتي المصورة الأخيرة، ويجب أن أنهي هذا حتى لم يكن على عاتقي دِين بالنسبة للشهيد سليماني”.
ومن ثم نرى أنه في لوحته يحكي تاريخ الثورة لكي يظهر الشهيد سليماني من تاريخ الثورة، وهذه تعبيرات مختلفة عن الثورة، وكل واحد يروي الحقيقة التي تأتي إلى قلبه بطريقة ما.
تأثير الدفاع المقدس على اللوحات الفنية
وبعد ذلك دار الحديث عن تأثير الدفاع المقدس في اللوحات الفنية والأسلوب الفني للفنان الثوري المرحوم “حبيب الله صادقي”، فقال الأستاذ رجبي دواني: الحرب دائماً تجعل نفوس الناس بعيدة عن الرغبات الدنيوية، لأنه في كل لحظة يظن أن الشخص التالي قد يكون هو، أو حتى لو كانت هناك حرب على الحدود، يرى أنهم يرحلون دائماً، الشيوخ والشباب يرحلون، وهذا مثل أيام شهر رمضان المبارك، عندما يصوم الإنسان، ويصبح جسده رقيقاً ومستعداً لفهم آلام المظلومين، في أيام الحرب تصل روح الناس إلى درجة أنه يجب عليهم الإبتعاد عن العلاقات الدنيوية، ولهذا السبب يعتقدون أنه بدلاً من التفكير في أنفسهم، بأن يجب علينا حماية البلد والمثل العليا والشعب والأمور المقدسة الأخرى.
وهذا هو أفضل درس للفنانين. ليتجهوا في هذا الاتجاه، مع الفارق أن الفنانين، من خلال مشاعرهم القوية، يؤسسون هذه العلاقة الحزينة والقلبية بشكل أسرع وأكثر دقة من غيرهم من الأشخاص.
ميزات أعمال “حبيب الله صادقي”
وتابع الدكتور رجبي دواني: فناننا الفاضل السيد حبيب الله صادقي، ومن الأفضل أن نقول الشهيد صادقي، لأنه عاش مع الشهداء طوال حياته، فقد أبدع الكثير من الأعمال، وفي كل هذه أراد أن يتذكر الشهداء، لقد أراد قلبه أن يكون مأنوساً مع الشهداء، لأن الإنسان إذا لم يكن مأنوساً مع شيئاً ما، فلا يستطيع أن يبرز تلك العلاقة بالإجبار والقوة، وهذا هو المبدأ في عالم الحكمة والفن أن كل وحي هو أدنى بكثير من تلك الحقيقة، حتى الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”(الحجر/9)، أي إنما أنزلت هذه الآيات إلى مستوى الإنسان الكامل، ولهذا السبب، فإن كل مظهر ينحدر فعلياً فيما يتعلق بالحقيقة، ولهذا السبب يحاول فنانو الثورة الاقتراب من الشهيد لدرجة أنهم يصبحون معه كجسم واحد، حتى يتمكنوا من إقل درجة من النزول.
ويتحدث عن الشيء الذي أوصل الشهيد إلى أرض المعركة والإستشهاد. وهذا ما فعله الشهيد صادقي أيضاً، واستخدم في جميع أعماله كل خبرته الجيدة في الرسم الإسلامي الإيراني وتجاربه في اللوحات الأوروبية الكلاسيكية، فضلاً عن الدروس التي تعلمها من الأعمال والتجارب الجديدة، وترك أعمالاً قيمة وخالدة للغاية لفن البلاد وفن الثورة الإسلامية في إيران.
وفي يوم الإثنين الموافق 7 أكتوبر سنقوم بطباعة مذكرة له نيابة عن أكاديمية الفنون، ولدينا مراسم ونقيم حفلاً في أكاديمية الفنون تخليداً له ويمكن للجميع الحضور في المراسم.
مهمة الفنانين في دعم غزة
وأخيراً، سألنا الدكتور محمدعلي رجبي دواني عن مهمة الفنانين لدعم غزة، حيث قال: في كل الحروب، وخاصة في هذه الحرب الجبانة، لها عدة خصائص وجوانب مختلفة، أحد الجوانب هو العدو، وهو ذو أبعاد رهيبة.
والجانب الآخر هو المجموعة التي تقف أمامهم، وهم المناضلون الفلسطينيون، والجانب الآخر هو الأشخاص الذين يدعمونهم، لكنهم في الواقع هم الذين يتحملون وطأة التدفق، فيتعامل الفنان في كل لوحة مجموعة منهم في كل مرة، والبعض يجمع بين المجموعتين، مثلاً يُظهر المجاهدين من جهة ومظلومية الشعب من جهة أخرى، وكل هذه المجالات مناسبة جداً للتعبير.
كل الفنون بما في ذلك الرسم الذي يمكنهم أن يتخذوا هذا الموضوع، لكن الجزء الذي يعود إلى جرائم العدو هو من الجرائم التي بحيث لا يمكن إظهار الكثير منه، أي أن الرسام لا يستطيع التعبير عن الجرائم التي يرتكبها العدو مع النساء والأطفال وغيرهم؛ عندما نسمع الأخبار، نتأثر بشدة لدرجة أن الأخبار نفسها تؤدي وظيفتها، وليس من الضروري أن يتناوله العمل الفني بالضرورة.
ولكن هنا يمكن أن يعمل الكاريكاتير بشكل جيد للغاية، وهو كاريكاتير ساخر بمرارة، وهنا يستخدم لإبراز سبعيتهم وفي نفس الوقت إخفاء أشياء كثيرة، ولكن على أي حال يمكن أن تكون كل من هذه الميزات هي مدخل للدخول إلى مجال الفن.
وفي النهاية، أرجو منكم أيها الكرام الذين أصحاب مهمة هذه القضايا أن تعالجوا هذه القضايا دائماً، من خلال نشر ثقافة الثورة والإستشهاد وفن الثورة.