الخبر الأقسى على مجتمع المقاومة: السيد استشهد يا عالم

«لم تنته الحرب، لكنّه عاد. ذابلة بندقيته، ويداه محايدتان»...عذراً من الشاعر حسن عبد الله، صاحب قصيدة «أجمل الأمهات». عاد السيد حسن نصر الله قبل نهاية الحرب، نعم. ولكن بندقيته لم تذبل، بل نعد عدوّنا بأنّنا سنحملها بعده، وستصبح أكثر نضجاً وشراسة، لذا لن تكون أيدينا محايدةً. نحن انتظرناه، وراقبنا نجماً يحوم على جثته في الظلام، وهو عاد مستشهداً كما تمنى مراراً.

«أنت أيقظتنا فكيف تغفو»، تقول شابة نازحة في إحدى مدارس بيروت بصوتها المخنوق. تضيف، «كيف أخاطبك اليوم، وأضيف قبل اسمك لقب الشهيد». هل يرحل أمثالك يا سيد؟ نحن لم نصدقك في كلّ مرّة كنت تتكلم فيها عن رحيلك. تكلّم الشهيد السيد حسن نصر الله في تأبين الشهيد فؤاد شكر، وحكى ولو بشكل مبطن عن شهادته. نحن يومها لم نشأ أن نسمعها. إنّما في نهاية خطابه، قال «إلى اللقاء يا سيد فؤاد»، ولم يودعه، كما اعتاد في السابق توديع الشهداء. سيسجل التاريخ هذا اليوم، لن يمحى من المفكرات، سنحييه كلّ عام على أنّ ذكرى رحيل محرّرنا هي السابع والعشرين من شهر أيلول، يوم تجوّل السيد حسن لآخر مرّة في الضاحية، ثمّ رحل فرحاً بما أتاه وتركنا نحن عياله أيتاماً تتقطع بنا الطرقات، ونهجر من بيوتنا ومدننا.

حبس أهل المقاومة أنفاسهم منذ مساء الجمعة الماضي. على إثر الغارة الصهيونية العدوانية على حارة حريك، توقفت القلوب، وتحجرت العيون على الشاشات، وانتظر عدد كبير من الناس خبراً حتى ساعات الصباح الأولى. لم ينم مهجرو الضاحية والجنوب والبقاع أمس، وصلوا ليلهم بنهارهم. وعلى الرغم من التهجير، والقصف المجنون على الضاحية والبقاع والجنوب، والنوم على الطرقات، وتدمير البيوت، إلا أنّ الخبر عن صحة السيد كان الأساس.

بعد انتظار طويل، وأمنيات بأنّ «يخرج صوت السيد من المذياع أو التلفاز ليطمئن الناس عن صحته»، مرّت الساعات ثقيلة. وخرج بيان عن العلاقات الإعلامية في حزب الله عند الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، أعلن فيه عن «شهادة السيد حسن نصر الله». لم تصدق الناس في الأحياء والطرقات، تعالت أصوات البكاء والصراخ في الشوارع، بكى الرجال وخنقتهم العبرات، واتشحت النساء بالسواد، كأنّ الراحل نزل من أرحامهنّ. أوقع أحمد النازح من مجدل سلم الهاتف من يده، وجلس على حافة الطريق باكياً، «ليتني متّ قبل هذا اليوم»، يقول، فيما ضربت امرأةً بكفوفها على الأرض ومسحت وجهها بالتراب، وصاحت «كيف تركوه يروح من بين أيديهم، ردوا لنا السيد لنحميه بضلوعنا، ردوا لنا السيد لنضعه في عيوننا».

 

كان الحزن مجنوناً، إنّما لم يكن في الضاحية من ناس ليبكوا السيد، ويخرجوا إلى الشوارع لتلبية ندائه الأخير. فبكوه في مراكز النزوح، في المدارس، وفي أحياء بيروت. كان دعاؤهم، دعاء الرجل الحزين في مأتم الأمين العام السابق السيد عباس الموسوي، «يا رب عوّض علينا بسيّد مثل هذا السيّد». واسوا بعضهم بأنّ «طريق الجهاد نهايتها الشهادة»، وأنّ «الأهم اليوم هو حفظ المقاومة، والدفاع عنها أمام الهجمة الصهيونية». ولكن، وعلى الرغم من المواساة، اجتاحت موجات البكاء البيوت طويلاً في بيروت. انتظر الأهل بعضهم البعض للتعزية، كيف لا، والفقيد هو ابن وأب كلّ عائلة من عائلات مجتمع المقاومة. لم يعرف هذا المجتمع وجوماً مثل الذي حلّ عليه أمس، حتى عند استشهاد القائد عماد مغنية، لم يشعر أحد باليتم والفقد، وكأنّ الفقيد هو فرد من الأسرة.

هذا حال الذين صدقوا الخبر. أما الجزء الثاني من الناس، فانتظروا خبراً آخراً ينفي الأول. تساءلوا «ألا يمكن أن يكون الخبر مضللاً، من قال إنّ الحسابات صادقة». وجد هؤلاء في شاشة قناة المنار التي عرضت خطاباً قديماً للسيد نصر الله، وعليه عبارة «مباشر» عزاءً لهم. فأقاموا الأفراح في محلة «عين المريسة» في بيروت، وأطلقوا النار في الهواء، ووزعوا الحلويات، ظناً منهم أنّ السيد نصر الله على قيد الحياة، وما الأخبار عن استشهاده سوى أكاذيب وأضاليل. ولكن، الحقيقة أنّ «السيد استشهد يا عالم»، قالها أحد الشباب القلة الذين بقوا في الضاحية، بينما كان يطلق الناس النار في الهواء.

المصدر: الاخبار