وترجّلَ الفارسُ عن جوادِه. ترجُّلَ بطل صنديدٍ باسلٍ أشوسٍ مِقدامٍ لم ينَلْ منه عدوُّهُ إلاّ غدراً.
فأنّى لتلكَ العمامةِ أن لا تسقطَ إلاّ في مِحرابِ الشهادة! فقد ظلّت هامةً مرفوعةً لـ32 عاماً على رأس حزب الله، نوراً يُضيءُ طريقَ المقاومةِ على خطى الإمام الخميني(قدس) والشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي. وأنّى لتلكَ اللحيةِ الغرّاءِ أن تتخضّبَ إلاّ بدماءِ الشهادة. وكيف للعباءةِ المباركة إلاّ أنْ يضمِّخَها عبقُ الاستشهاد!
“يقولون رحلت! سامحَ اللهُ سماحتك، ملأتَ الدنيا وشغلتَ الناس. ثم هكذا غادرتَ بلا تلميحِ ذهاب ودونما تلويحِ وداع؟!”، بهذه الكلمات رثى أشرف الكبسي السيد الشهيد حسن نصر الله في فيسبوك.
لحظةٌ بين الصّدمةِ وهولِها، والعَبرةِ وأنينِها، والغصّةِ وكربتِها، لحظةٌ بين اليأسِ والرّجاء، لحظةٌ توقفَ فيها الزمانُ عندَ “يا وعد الله” ، و”نصرك هزّ الدني”، و”اضرب والريح تصيح”، و”مين قدّك لما تطلّ”، و”نصرك نصرين” و”يا جبل ما يهزك ريح”! لحظةٌ مريرةٌ بين الصدمةِ ووجوبِ التماسك. “شيمتنا الصبر. لكنه السيد حسن!”، تقول زهراء للميادين نت بألم يعتصر صدرها.
“هل حقاً لن نسمع صوته الذي يشفي صدورنا الحرّى؟! ألن يُطلّ الأمين علينا بعد اليوم؟!”، تساءلت زينب على وقع الألم من جرّاء الحدث.
ومثلها بشرى التي وصفت لحظة سماعها الخبر بالفاجعة قائلة: “كانت لحظةَ تأرجحٍ بين الوعي واللاوعي. لحظةُ وداعٍ نازفة لجسدٍ عظيم حمل هموم الأمة”.
ليست الفاجعة أن شخصَ السيد نصر الله قد رحل، فمثله لا يرحلون بل تزيدُهم الشهادةُ خلوداً، إنما لأنّ أمة تعلّقت به وبخطه ونهجه تعلُّقَ المحبّ بمحبوبه، والجنديِّ بقائده، وارتبطت به “ارتباطَ وإيمانٍ وجهاد، وارتباط المنهجِ والمسيرِ والغايةِ والهدف”، تقول انتظار.
شعبٌ لم يرَ في يومٍ السيد الشهيد السيد حسن نصر الله بعينٍ والسيد عبد الملك الحوثي بعينٍ أخرى، بل يرونهما بكلتا العينين والنظرة ذاتها. قائدٌ مُلهمٌ ورمزٌ لليمن والقضيّة كما هو للبنان وسائر الأمة. يقول يوسف الحاضري: “ارتباطنا بالسيد حسن كارتباطنا بالسيد عبد الملك. لا تجد بيتاً إلا وصورة سماحة الأمين معلّقة إلى جوار صور قادتنا”. ويضيف: “بالنسبة إليّ هو أغلى من روحي ونفسي وولدي!”.
كان سنداً لليمن
لم يكُن متوقّعاً من هامةٍ شامخة ومدرسةٍ في الجهادِ والمقاومةِ أصيلة كالسيد نصر الله أن يغفل لحظةً عن أنّةِ مظلومٍ على هذه الأرض، أو يصمّ أذنيه عن نحيبِ وآهاتِ المكلومين. فكان الناصر والذادّ الذي لا يفتر له عزمٌ ولا تهِن له شكيمة.
قائدٌ لم يطلب المنزلةَ بين المنزلتين، ولا الواسطةَ بين الطرفين، ولا العيشَ الذي هو بالموتِ أشبه منه بالحياة. فلم يتباطأ ولم يتمهّل حتى أعلنَ موقفه من العدوان على اليمن في ثاني يومٍ له منذ بدئه، مُجاهراً بموقفه صراحةً محتضناً بذلك معاناة الشعب اليمني بأكمله. وتقول زينب بحرقة: “كيف ننسى لستم وحدكم وكلنا يمن؟ كيف ننسى: أنا لستُ وسيطاً أنا طرفٌ مع السيد عبد الملك الحوثي؟ كيف ننسى دمعته الغالية على اليمن والشعب اليمني؟”.
وصيةُ القائد
إنّ القائد الذي يربّي أمة لـ32 عاماً على دويّ:” هيهات منّا الذلة”، ليس بحاجةٍ لأن يكتبَ الوصية، ولا يمكن أن يختلج نفسه شك بعزم أبنائه، فوصيته كامنةٌ في أحرفه وبين ثنايا كلماته، في تجليات مواقفه، في سبّابته التي ما ارتفعتْ وأومأتْ يوماً إلا وتلتها صرخات وصيحات وعويل الصهاينة. تقول هنية خطاب للميادين نت: “اليمن لن يحيد أبداً عن المواجهة. لليمن قائد سيجعل الكيان الغاصب يدفع ثمن اغتيال السيد حسن غالياً”. فيما تؤكد جهينة: “حزننا عليك يا سيد لن يكون انكساراً وخنوعاً، سنجعل هذا الغضب شوكة في عين العدو ووالله لا يجدنا إلا حيث يكره”.
مشاعر الحزن الممزوجة بالغضب سادت الشارع اليمني، تذرف دمعة وتُتبعها بصلياتٍ من الغضب المشتعل على رؤوس الصهاينة. فالقائدُ الذي وفّى ترك جميلاً في رقاب اليمنيين لن يوفيه إلا زوال الكيان الغاصب. خاصة بعدما أعلن قائد حركة أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي عن حتمية الرد في مقامِ العمل.
الشهادةُ ليستْ نهايةَ الطريق
“عندما ننتصر ننتصر وعندما نستشهد ننتصر”، هكذا أرسى السيد نصر الله المبدأ. فلم يرحلْ إلاّ بعد أنْ أوضح وأبانَ كل شيء. بعد أن علَّمَ أبناءَه كيف يتعزّون بالجهاد في فقد قادَتهم وسائرِ شهدائِهم. فما العزاءُ إلا تصبيرٌ على فاجعةِ الرحيلِ وألمِ الفُقدِ، ولا أجدى لذلكَ كالسير في نهج المقاومة وحمل السلاح ومواجهة الأعداء.
لقد تركَ السيد نصر الله خلفه آلافاً من المجاهدين. فالمقاومةُ اليوم تعدّت حدودَ الجغرافيا والمكان. لقد تركَ وراءَه منهجاً وعقيدة وأسطورة لن تسقطَ بالتقادم، إنما ستُكلّل بالانتصار. تقول دعاء: “الشهادة في أمتنا ليست نهايةَ الطريق، بل عهدٌ خالدٌ يتجدد مع كل قطرة دم زكية تراق في سبيل الله”.
“قضيتكم قضيتنا ووجعكم وجعنا، لن نترككم حتى نثأر لكل الشهداء”، هكذا تعبّر أمل بلسان حال شعبٍ برمّته، “فلا شيء يبلسم جراح الأمة سوى أن يزول الكيان المجرم”.
وكما كان العهد بجمهور المقاومةِ وأبنائها أن تزيدهم شهادةُ قادتِها عزماً إلى عزمِهِم وبأساً إلى بأسهم، فشهادة أمين عام حزب الله وقائد الشهداء وسيدهم لن تزيد أبناءه إلا صبراً وجلادةً وعزماً. تقول إشراق المأخذي: “أنتم أبناءُ السيد حسن وتربيته، حتماً ستنهضون من بين كل هذا أقوياء أشداء منتصرين”.
ملاك محمود