ولتوضيح ذلك، فإن الأمر بحاجة لقراءة علمية متأنية بعيدًا عن المشاهد الهوليوودية التي يدمنها الكيان ورعاته بانفجارات مروعة تتصاعد ألسنتها لتدهش الأبصار، واغتيالات مؤلمة للرموز لتدمي القلوب، وهنا يجدر بنا قراءة أهمية ما جرى في السابع من أكتوبر، وما كشفه من هشاشة العدو، ولماذا لجأ لهذه الشراسة والإبادة، والأهم هو المحصلة، وهل نجح العدو في تحقيق أي نصر أم أن النتائج كانت عكسية وأصبح هو ورعاته في وضع انكشاف إستراتيجي شامل وتهديد وجودي غير مسبوق؟
وهذه التوضيحات والإجابات تتطلب قراءة في مجموعة من العناوين الرئيسية:
أولاً: طوفان الأقصى في السياق التاريخي للصراع
اندلع طوفان الأقصى في سياق تاريخي يشهد ذروة إجراءات تصفية القضية والتي اعتمدت على مراحل متتابعة ومخططة يمكن رصدها في ما يأتي:
1- إخراج أكبر جيش عربي من الصراع بعد “معاهدة السلام” المزعومة، وبالتالي أكبر خصم من حيث القوة العسكرية، وما يلازمها من خصم القوة الناعمة بلحاظ دور مصر في الصراع وفي أمتها.
2- تدجين الأنظمة الرسمية العربية ومحاصرة الأنظمة الممانعة والمقاومة بها، وانتزاع القرار الرسمي العربي ووضعه باليد الأمريكية عبر النظام السعودي وسيطرته على الجامعة العربية والمنظمات الإسلامية، وتحديد سقف للعمل العربي بمبادرة تفريط سعودية اتخذت زوراً اسم “المبادرة العربية” رغم تجاهل الكيان لها.
3- الاتفاقات الإبراهيمية المزعومة والتي تجاوزت مبادرة التفريط الرسمية وقفزت للتطبيع حتى قبل تقديم العدو لأي فتات مما طرحته المبادرة، بل وقفزة الى إجراءات تصفوية ملحوظة.
4- الشروع في إدخال أكبر اقتصاد عربي، وهو الاقتصاد السعودي، في اتفاقيات التطبيع لينضم إلى اقتصاد الإمارات وبالتالي خلق حالة من اليأس لدى الأمة، يتمثل في كون جناحيها العسكري والاقتصادي قد التحقا بركب التطبيع واعترفا بالأمر الصهيوني الواقع.
5- التزامن بين التطبيع الاقتصادي والتحالف الأمني والعسكري، بمعنى تدشين جناح إبراهيمي عسكري يعتمد على التعاون الأمني والاستخباراتي والعسكري وخلق مظلة دفاع إقليمية، تنوعت مسمياتها بين صفقة القرن والناتو العربي وغيرها من الأطروحات، ولكن هدفها واحد، وهو حصار قوى المقاومة ومحورها، بل وتصفيتها في مراحل لاحقة.
وهنا اندلع طوفان الأقصى ليقلب الطاولة ويعيد للقضية وجهها الحقيقي المقاوم بعيدًا عن الاتفاقات المخادعة والوعود المؤجلة وكسب الوقت لصالح التصفية، واندلع ليكشف هشاشة العدو، وليبيّن أن التحرير ليس حلمًا بعيد المنال، عبر تجسيد مشهد مصغر من مشاهد زوال الكيان يكشف الهشاشة الاستخباراتية والأمنية وأن ثلة من المقاومين أحدثت هذا الزلزال في الكيان ومستوطنيه وكامل اعمدته السياسية والاقتصادية.
ثانياً: حرب الإبادة وإزالة الأقنعة ودلالاتها
وبلحاظ أن العمود الرئيسي للكيان داخلياً وهو الأمن قد تزلزل، فإن العمود الرئيسي للكيان خارجياً والقائم على الردع، قد تزلزل باشتراك المقاومة في لبنان وتفعيل وحدة ساحات المقاومة، وهو ما فطن العدو إلى أنه تهديد وجودي من المستوى الأول، وفطن الراعي الأمريكي له، مما جعل الرئيس الأمريكي يسارع في ركوب طائرته بأمر من جناح الهيمنة الأمريكي المشغل للبيت الأبيض والكيان، ويعلن وقوف أميركا مع الكيان في كامل إجراءات الدفاع عن وجوده، وهو ما يدلل على أن التهديد الوجودي لم يقتصر على الكيان بل شمل الهيمنة الأمريكية بالمنطقة، بل والعالم بلحاظ ما يحدث في جبهات الصراع الدولي الأخرى في أوكرانيا وبحر الصين.
ومن رحم هذا التشخيص الأمريكي الصهيوني، خرجت الكلمات الأولى لنتنياهو، لتؤكد أن ما سيحدث في غزة سيغير وجه المنطقة، وهو ما كرره مؤخرًا من أوهام حينما كان يحمل الخرائط، وهو مزهو بجريمته الكبرى باغتيال سيد المقاومة وترديده لمقولات “الشرق الأوسط الجديد”.
وهذا الزهو والتعجل في الإفصاح عن المخطط، أوقفته الضربة الإيرانية عند حدوده، وأجهضه تماسك حزب الله وامتصاصه للفاجعة ومعاودة إيلام العدو وتذكيره بأمجاد 2006 وما قبلها، وأجهضه الوعد الصادق الإيراني وبطولات اليمن والعراق وسورية، مما أثبت مدى تهافت إنجازات الكيان المزعومة، بل والمأزق الذي وضعت أميركا والكيان به نفسَيهما وكارثية ما أقدما عليه.
وهنا كشفت أميركا عن وجهها الحقيقي للعالم رغم أنه مكشوف للمقاومة، وأثبتت أنها من يقود الصراع والإبادة والغطاء القانوني.
وأثبت النظام العربي أنه ألعوبة في يد أميركا وأنه لايستطيع استخدام أي ورقة قوة بل يتواطأ مع أميركا بتبرئتها وتقديمها كوسيط، ويتواطأ مع الكيان عبر الاكتفاء بالتنديد، بل ولا يجرؤ على إدانة صريحة لاغتيال وتصفية رموز المقاومة، كأن هذه الانظمة تتنصل من المقاومة وتعتبرها شبهة تخشى من تبعات مجرد إدانة استهدافها.
وهو ما أثبت بوضوح أن المقاومة هي الطريق الحتمي والوحيد لاستعادة الحقوق وأن هذه الأنظمة وهذه الوعود الأمريكية والدولية المؤجلة ليست إلا سراب وإلهاء لكسب الوقت، بغرض استكمال مراحل التصفية النهائية للقضية.
ثالثاً: هل حقق العدو مكسباً استراتيجياً واحداً؟
ورغم كل أعداد الضحايا والدمار والجرائم وعلى رأسها الفاجعة الكبرى باغتيال سيد المقاومة، فإن العدو لم يحقق مكسباً إستراتيجياً واحداً، بل لم يحقق أي هدف من أهدافه المعلنة على مدى عام كامل.
ففي غزة لم يحرر أسراه ولم يسحق المقاومة، ولم يعِد مستوطناته في “غلاف غزة”، ولم يحل مشكلته الداخلية، بل انتفضت الضفة وعادت العمليات الاستشهادية للقدس ويافا وأثبتت فشلاً وعاراً بقتله لأسراه وعدم اعتنائه بأرواح مواطنيه. ويكفي هنا أن نراقب ما تنشره وسائل إعلام العدو لنكتشف ذلك، وآخرها استطلاع رأي نشرته “هيئة البث الإسرائيلية”، خلص إلى أن 73 % من “الإسرائيليين” يعتقدون أن “إسرائيل” فشلت أمام حماس، و86 % منهم غير مستعدين للعيش في “غلاف غزة” بعد انتهاء الحرب، وربع “الإسرائيليين” يفكرون بمغادرة “إسرائيل”، وأن 48 % من المشاركين في الاستطلاع لديهم قريب قُتل خلال الحرب.
وفي لبنان وضع أهدافاً متتابعة مستحيلة التحقق، فلم يستطع فصل ساحة لبنان رغم كل التهديدات والوعيد، ورغم الإقدام على الجريمة التاريخية البشعة المتمثلة باغتيال الشهيد القائد، ولم يعد مستوطنات الشمال بل شهد مزيداً من النزوح بعد تكثيف المقاومة لقصفها، ودخول مستوطنات ومدن أعمق في الجليل الأسفل وحيفا ومحيطها، في دائرة نيران المقاومة.
رابعاً: المكاسب الإستراتيجية للمقاومة
رغم كل الجراح والدمار وأعداد الشهداء والجرحى والنزوح وفقدان الرموز، فإن المقاومة تحقق أهدافها المعلنة بتثبيت وجودها وتثبيت وحدة الساحات، بل وطورت إنجازاتها بتصعيد نيرانها وعملياتها في العمق الصهيوني.
واستطاعت المقاومة كسب التحدي المعلن بين الشهيد القائد نصر الله، بعدم عودة مستوطني الشمال، وأصبح استهداف “تل أبيب” عملاً يومياً روتينياً من العراق واليمن ولبنان، وعاد للقضية زخمها المقاوم، وعادت العمليات الاستشهادية التي لا يمكن للعدو وشعبه تحمل رعبها، ويومياً يدخل الملايين في الكيان إلى الملاجئ.
وتكلل الصمود بالضربة الإيرانية الكبرى التي دكت قواعد العدو وأوقفته عند حدوده وأثبتت أن المقاومة لها محور متماسك وقائد كبير بحجم التحدي العالمي، وأن إيران تقف في وجه الطاغوت الأمريكي، وهو ما أعاد للكيان زلزلته بعد زلزلة نفس العمودين القائم عليهما، الأمن في الداخل وهو ما بات شبه مفقود، والردع في الخارج، وهو ما تهشم.