ويمعن الجيش الصهيوني بهجماته الجوية والبرية العنيفة التي تستهدف منازل مأهولة وتجمعات للفلسطينيين من دون سابق إنذار في مناطق مختلفة من قطاع غزة، ما يوقع خسائر بشرية ومادية كبيرة، أسفرت عن أكثر من 138 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة مئات الأطفال. كما أن هذه الهجمات تستهدف في غالبية الأحيان مناطق زعم الكيان أنها “مناطق إنسانية آمنة”، وأجبرت الفلسطينيين على النزوح إليها في ظل ظروف صحية ومعيشية غير إنسانية. وفيما يلي رصد للخسائر المادية والاقتصادية في قطاع غزة بعد عام من حرب الإبادة الصهيونية على القطاع.
42 مليون طن من الركام
فوق أنقاض منزله الذي كان يوماً مكوناً من طابقين، يجمع محمد -البالغ من العمر 11 عاماً- قطعاً من السقف المتساقط في دلو مكسورة ويسحقها لتتحول إلى حصى سيستخدمه والده في صنع شواهد قبور لضحايا الحرب الصهيونية الهجمية على قطاع غزة. ويقول والده جهاد شمالي، عامل البناء السابق البالغ من العمر 42 عاماً، بينما كان يقطع معادن انتشلها من منزلهم في مدينة خان يونس بجنوب قطاع غزة، والذي تضرر خلال غارة في إبريل/ نيسان: “بنجيب الدبش مش كرمال نبني فيه دور، لا، لبلاط الشهداء (شواهد القبور) وللمقابر، يعني من مأساة لمأساة”.
الاحتلال يُبيد زراعة غزة
تقدّر الأمم المتحدة أن هناك أكثر من 42 مليون طن من الركام، بما في ذلك مبانٍ مدمرة لا تزال قائمة وبنايات منهارة. وقالت الأمم المتحدة: إن هذا يعادل 14 مثل كمية الأنقاض المتراكمة في غزة بين 2008 وبداية الحرب قبل عام، وأكثر من خمسة أمثال الكمية التي خلفتها معركة الموصل في العراق بين عامي 2016 و2017.
وإذا تراكمت هذه الكمية، فإنها قد تملأ الهرم الأكبر في الجيزة، أكبر أهرام مصر، 11 مرة. وهي تتزايد يومياً. وقال ثلاثة مسؤولين في الأمم المتحدة: إن المنظمة الدولية تحاول تقديم المساعدة في الوقت الذي تدرس فيه السلطات في قطاع غزة كيفية التعامل مع الأنقاض. وتخطط مجموعة عمل لإدارة التعامل مع الحطام تقودها الأمم المتحدة لبدء مشروع تجريبي مع السلطات الفلسطينية في خانيونس ومدينة دير البلح بوسط قطاع غزة لبدء إزالة الحطام من جوانب الطرق هذا الشهر.
خيام وسط الأنقاض
على الأرض، تتراكم الأنقاض عالياً فوق مستوى المشاة والعربات التي تجرها الحمير على المسارات الضيقة المليئة بالأتربة والتي كانت في السابق طرقاً مزدحمة. وقال يسري أبو شباب -وهو سائق سيارة أجرة بعد أن أزال ما يكفي من الحطام من منزله في خانيونس لإقامة خيمة-: “مين راح ييجي هنا مشان يزيل الأنقاض لنا؟ ولا حدا، مشان هيك إحنا بنقوم بها الشي بأنفسنا”.
وبحسب بيانات الأقمار الصناعية للأمم المتحدة، فإن ثلثي مباني غزة التي بنيت قبل الحرب، أي ما يزيد على 163 ألف مبنى، تضررت أو سويت بالأرض، ونحو ثلثها كان من البنايات متعددة الطوابق. وبعد حرب استمرت سبعة أسابيع في غزة عام 2014، تمكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وشركاؤه من إزالة ثلاثة ملايين طن من الحطام، أي 7% من إجمالي الركام الآن.
وأشار مراكيتش إلى تقدير أولي غير منشور ذكر أن إزالة 10 ملايين طن من الحطام ستكلف 280 مليون دولار، وهو ما يعني نحو 2/1 مليار دولار إجمالاً إذا توقفت الحرب الآن. وأشارت تقديرات الأمم المتحدة في إبريل/ نيسان إلى أن إزالة الأنقاض سوف تستغرق 14 عاماً.
تدمير واسع يفاقم أزمة الإسكان
يواصل الجيش الصهيوني قصف القطاع بالأسلحة المحرمة وأسلحة أميركية أبرزها: قنابل من نوع GBU-28، والقنابل الموجهة بنظام GPS بهدف تدمير البنية التحتية، وقنابل الفوسفور الأبيض، والقنابل الغبية أو غير الموجهة، وقنابل “جدام – JDAM” الذكية، وفق ما أعلنه المكتب الحكومي في 1 سبتمبر الماضي. هذا القصف سبَّب تدمير أكثر من 75 % من القطاع الإسكاني والمستشفيات والمدارس والكنائس، بحسب ذات المصدر.
وبحسب تقييمات الأضرار التي أجراها باحثون في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون، ونشرتها مواقع أجنبية، فإن أكثر من نصف المباني في جميع أنحاء قطاع غزة تعرضت لأضرار، وارتفعت النسبة إلى ما يقرب من 80 % في مدينة غزة. ومن أصل 400 ألف وحدة سكنية في القطاع، دمر الجيش الصهيوني نحو 150 ألف وحدة كلياً، و200 ألف وحدة جزئياً، بينما سبَّب تحول 80 ألف وحدة لأماكن غير صالحة للسكن.
هذه المنطقة الجغرافية الضيقة التي تبلغ مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً ويعيش فيها نحو 3/2 مليون نسمة، كانت تعاني قبل اندلاع الحرب أزمة كبيرة في الإسكان، حيث بلغت نسبة العجز 120 ألف وحدة سكنية حتى مطلع عام 2023.
وتبلغ عدد الوحدات التي يحتاج إليها قطاع غزة في الوقت الحالي جراء الحرب 270 ألف وحدة على الأقل وهو مجموع إجمالي العجز مع ما تم تدميره كلياً. فيما يحتاج إلى إعادة تأهيل أو إعادة بناء نحو 280 ألف وحدة، وهي مجموع ما دُمر جزئياً إضافة إلى الوحدات غير الصالحة للسكن.
إلى جانب ذلك، سعى الجيش المحتل إلى تدمير ملامح الحياة بغزة حيث حول القطاع وفق تصريحات مسؤولين أمميين إلى منطقة “غير صالحة للعيش”. وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، دَمّر الجيش 3 كنائس، و611 مسجداً كلياً و214 جزئياً، و206 مواقع أثرية وتراثية، و36 منشأة وملعباً وصالة رياضية. كما دَمّر 125 مدرسة وجامعة بالكامل، و337 جزئياً، فضلاً عن تدمير كامل لنحو 201 مقر حكومي، وفق المكتب.
جثث مطمورة في الركام
قال مراكيتش لوكالة رويترز: إن الحطام يحتوي على جثث غير منتشلة وقنابل غير منفجرة. وتقول وزارة الصحة في قطاع غزة: إن عدد تلك الجثث قد يصل إلى عشرة آلاف. وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر: إن التهديد “واسع النطاق”، ويقول مسؤولون في الأمم المتحدة إن بعض الحطام يشكل خطراً كبيراً بالتعرض للإصابة.
ووفقاً لوزارة الصحة في قطاع غزة، فقد ارتفع عدد ضحايا العدوان الصهيوني إلى 41 ألفاً و870 شهيداً و97 ألفاً و166 مصاباً منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وقال برنامج الأمم المتحدة للبيئة: إن ما يقدر بنحو 3/2 مليون طن من الحطام ربما تكون ملوثة، مستنداً إلى تقييم لمخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة والتي تعرض بعضها للقصف. ويمكن أن تسبب ألياف الأسبستوس سرطان الحنجرة والمبيض والرئة عند استنشاقها.
نقص الأراضي والمعدات
استُخدمت أنقاض في السابق للمساعدة في بناء الموانئ البحرية. وتأمل الأمم المتحدة الآن في إعادة تدوير جزء منها لبناء شبكات الطرق وتعزيز الخط الساحلي. ويقول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: إن قطاع غزة يفتقر إلى المساحة اللازمة للتخلص من النفايات والركام.
وتقع مكبات النفايات الآن في مناطق تسيطر عليها قوات الاحتلال، وقال مراكيتش: إن المزيد من إعادة التدوير يعني المزيد من الأموال لتمويل المعدات مثل الكسارات الصناعية. ولابد أن تدخل هذه المعدات إلى قطاع غزة عبر نقاط عبور يسيطر عليها الكيان. وتحدث مسؤولون حكوميون عن نقص في الوقود والآلات بسبب القيود الصهيونية التي تبطئ جهود إزالة الأنقاض. وقال المتحدث باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة: إن إجراءات الموافقة المطولة “عائق رئيسي”.
ويقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة: إنه يحتاج إلى إذن أصحاب الممتلكات لإزالة الأنقاض؛ لكن حجم الدمار أدى إلى طمس الحدود بينها كما فقدت بعض السجلات العقارية أثناء الحرب. وقال مراكيتش: إن العديد من الجهات المانحة أبدت اهتمامها بالمساعدة منذ اجتماع استضافته الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية في 12 أغسطس/ آب، من دون أن يسمي هذه الجهات.
تدمير القطاع الصحي
يأتي ذلك وسط ظروف صحية صعبة يعانيها القطاع جراء نقص الأدوية والمستلزمات الطبية والتدمير الممنهج للمستشفيات المركزية والصغيرة في القطاع، حيث تقول منظمة الصحة العالمية: إن 17 مستشفى من أصل 36 في غزة مازالت تعمل جزئياً، فيما يتم في أغلب الأحيان تعليق خدمات الرعاية الصحية الأولية والمجتمعية بسبب انعدام الأمن، والهجمات الصهيونية، وأوامر الإخلاء المتكررة؛ لكن المكتب الإعلامي الحكومي يقول إن هجمات الجيش الصهيوني أخرجت 34 مستشفى و80 مركزاً صحياً عن الخدمة، كما استهدف 162 مؤسسة صحية و131 سيارة إسعاف.
تدمير مرافق المياه
حتى يونيو/ حزيران الماضي، قدّرت وكالة “أونروا” أن 67% من مرافق المياه والصرف الصحي والبنية التحتية في قطاع غزة مدمرة أو متضررة جراء الحرب. وبحسب تقرير لمنظمة “أوكسفام” في يوليو/ تموز الماضي، فإن الحرب أدت إلى إتلاف أو تدمير 5 مواقع للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي كل ثلاثة أيام منذ بداية الحرب.
وبحسب بيان مشترك للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة جودة البيئة، في 5 يونيو/ حزيران الماضي، فإن إجمالي المياه المتوفرة في قطاع غزة تقدر بنحو 10-20% من مجمل المياه المتاحة قبل العدوان. وبذلك تراجعت حصة الفرد الفلسطيني في القطاع من المياه بنسبة 94% خلال الحرب، حيث لا يستطيع المواطن في قطاع غزة بحسب منظمة “أوكسفام” الوصول إلا بصعوبة إلى 74/4 لتر من المياه يومياً، مقارنة بوصوله إلى نحو 8/26 لتر يومياً لعام 2022، وفق تقرير سابق للجهاز.
وتبقى حصة الفرد الفلسطيني في غزة ضئيلة بموجب ما أقرته منظمة الصحة العالمية من حق كل فرد الحصول على 120 لتراً يومياً، بما يشمل الاستخدام الشخصي والمنزلي. ويتعمد الجيش الصهيوني استخدام التعطيش سلاحاً ضد الفلسطينيين في حرب الإبادة، وفق ما أفاد به مسؤولون حقوقيون، فيما صنفته “أوكسفام” ضمن “جرائم الحرب”، حيث يواصل الجيش منع دخول الوقود اللازم لتشغيل محطات المياه المتبقية في القطاع، إلا بكميات شحيحة جداً ما يعيق من وصول الفلسطينيين إلى حصتهم القليلة.
تدمير شبكات الصرف الصحي
منذ الحرب، بلغت نسبة ما دمره الكيان من مضخات الصرف الصحي نحو 70 %، فضلاً عن تدمير 100% من جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي ومختبرات فحص جودة المياه، وفق تقرير “أوكسفام”. وسبَّب هذا التدمير الواسع تسرب المياه العادمة إلى الشوارع وخيام النازحين، حيث تتفاقم هذه المأساة في فصل الشتاء، ما يسبب انتشار الأمراض في صفوف النازحين.
وحتى يوليو/ تموز الماضي، عانى أكثر من ربع سكان غزة، وفق أوكسفام، “أمراضاً خطيرة” كان يمكن الوقاية منها بسهولة؛ لكن انتشرت بسبب نقص المناعة المتزامن مع تسرب المياه العادمة وشح المياه اللازم للتنظيف والاستخدام الشخصي. بينما وصل عدد من أصيبوا بالأمراض المعدية إلى أكثر من مليون و730 ألفاً من أصل مليوني نازح، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة. كما ظهر مرض شلل الأطفال في القطاع لأول مرة منذ 25 عاماً في أغسطس/ آب الماضي، ما دق ناقوس الخطر ودفع المؤسسات الصحية الدولية إلى توفير التطعيمات وإطلاق حملة تطعيم في القطاع بالتعاون مع وزارة الصحة.
التجويع سلاح آخر
إلى جانب التعطيش، يستخدم الكيان الصهيوني التجويع سلاحاً لقتل الفلسطينيين في حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها ضدهم في غزة. ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حينما تشكلت ملامح المجاعة والتي بدأت في محافظتي غزة والشمال بسبب الحصار المشدد المفروض عليهما، تتواصل هذه الظروف الغذائية الصعبة التي سبَّبت موت نحو 36 طفلاً بسبب سوء التغذية.
وفي يونيو الماضي، قالت “أونروا” في بيان: إن أكثر من 50 ألف طفل في القطاع في حاجة ماسة إلى العلاج من سوء التغذية الحاد، وذلك من أصل مليون و67 ألفاً و986 طفلاً دون سن 18 عاماً، وفق تقرير للجهاز المركزي الفلسطيني. وتتواصل حلقة التجويع في ظل منع الكيان وصول المساعدات الغذائية إلى غزة إلا بكميات شحيحة، إضافة إلى استهداف المخازن الغذائية التي كانت توجد في القطاع والمخابز وشاحنات المساعدات والجوعى الذين ينتظرون دورهم للحصول على مساعدات.
وبحسب تقرير نشرته “أوكسفام” في 6 سبتمبر الماضي، فإن 1 من كل 5 أشخاص يعيشون في غزة يواجهون “مستويات كارثية” من الجوع، فيما قال برنامج الأغذية العالمي، في يوليو الماضي، إن نصف مليون شخص في القطاع يواجهون “مستويات كارثية” من الجوع. وبينما كان يصل قطاع غزة نحو 600 شاحنة محملة بالمواد الغذائية يومياً قبل اندلاع الحرب، تقلصت الأعداد إلى نحو 50 شاحنة أو أقل، فيما يمنع الكيان المحتل في بعض الأيام دخولها.