برز مفهوم التناص بين المصطلح والإجراء حديثاً ولكنَّ جذوره تمتد إلى أكثر من ثلاثة عشر قرن من الآن، ولكن بمصطلحات مختلفة، فقد لمسه العرب الأوائل منذ نشوء العلوم، في بادئ الأمر كان مذموماً عند النقاد لذا وسموه بــ (الانتحال)، وكتب بهذا المصطلح كبار النقاد، وألمع من درس هذه القضية؛ ابن سلام الجمحي ت(231هـ) في كتابه الشهير (طبقات فحول الشعراء).
وكذلك جاءت مجموعة من المؤلفات بعنوان (السرقات)، وبعد القرن الثالث الهجري خفت وطأة النقاد فأطلقوا عليه تسمية (الاقتباس والتضمين)، وقسموا الاقتباس إلى مباشر وغير مباشر، وهذا جاء من إطلاق (توارد الخواطر) أو الإعجاب بنص سابق، فرُفعَ قلم الذم عن هذا المفهوم، وهذا لا يعني الزام النقاد جميعاً برفع الحرج عنه؛ وإنَّما كان المتصدرون للعلوم يقبلون بالاقتباس والتضمين ورفع كلمة الانتحال، منهم الشريف الجرجاني والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم.
ثمَّ قطع شوطاً ليس بالسهل في المجابهة بين القبول والرفض، والأخذ والرد، إلى أن استوى علما كتب فيه مجموعة من العلماء في القرون السابع والثامن والتاسع الهجري، والذين حلُّوا هذه العقدة وأطلقوا العنان للإقتباس والتضمين في أدبهم هم الأندلسيون، فكانوا أبناءً للشعراء العباسيين، وأدبهم نسخة عن الأدب العباسي، ففتحوا باب الاقتباس على مصراعيه، ولم يأخذهم نقد الناقدين في ذلك، ونقلوا أدب العباسيين إلى الغرب بثوب قشيب وإطار منمَّق.
ثمَّ ظهر مصطلح (الأثر) فانتقل الاقتباس إلى مصطلح (الأثر) انتقالة لم تكن بالعسيرة بل لاقت قبولاً وإقبالاً كبيراً من قبل الكتَّاب، ولعلَّ (الأثر القرآني) هو الأبرز والأكثر تداولاً في هذا المضمار، فانبرى الباحثون الجدد إلى البحث فيه، فوُلدت منه مجموعة ليس بالقليلة من الأطاريح والرسائل الجامعية الحديثة بهذا المصطلح، منها (الأثر القرآني في نهج البلاغة) للأستاذ الدكتور عباس على حسين الفحام، و(الأثر القرآني في شعر السيد رضا الهندي) للدكتور ظاهر الموسوي و (الأثر القرآني في حكايات ألف ليلة وليلة) لأحمد السيد النجار، و(أثر القصة القرآنية في الشعر العربي الحديث) لحسن المطلب المجالي، وغيرها من الدراسات الحديثة.
اما في ستينات القرن الماضي جاء مصطلح ((التَّنَاصُّ، أو التعالق النصي، بالإنجليزية: Intertextuality)) في الأدب العربي هو مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص. وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبية.
وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة. وهو من أهم الأساليب النقدية الشعرية المعاصرة وقد تزايدت أهمية المصطلح في النظريات البنيوية وما بعد البنيوية. وهو من المصطلحات والمفاهيم السيميائية الحديثة وهو مفهوم إجرائي يساهم في تفكيك سنن النصوص (الخطابات) ومرجعيتها وتعالقها بنصوص أخرى وهو بذلك مصطلح أريد به تقاطع النصوص وتداخلها ثم الحوار والتفاعل فيما بينها.
أصبح مفهوم (التناص) واضحا فهو حسب البلغارية كريستيفا (تداخل النصوص في النص الجديد أو التعالق النصي)- وهو يختلف عن السرقات الأدبية أو (التناص) حسب مصطلح الشاعر والناقد الفلسطيني عزالدين المناصرة، فقسمت التناص على ثلاثة اقسام:
1ـ الاجترار: وهو ما كان التناص حرفيَّا، أي وضع النص السابق كما هو، كما في قول السيد رضا الهندي (رحمه الله):
أمفلَّج ثغرُكَ أم جوهر — ورحيق رضابك أم سكر
قد قال لثغرك صانعه — [إنَّا أعطيناكَ الكوثر]
فما بين المعقوفتين اجترار مباشر من الآية الأولى من سورة الكوثر المباركة.
2ـ الحوار: وهو الحوار مع نص آخر قديم فيحاكيه الشاعر او الكاتب في نصه الجديد، كما جاء في شعر الشيخ الوائلي في قوله رحمه الله:
ولأنتَ من هذا التُرابِ وكلهم — في أصله حمأٌ به مسنونُ
فعجز البيت هو حوار من قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}.
3ـ الامتصاص: وهو امتصاص المعنى من النص السابق وسكبه بقالب جديد وهذا من أروع أقسام التناص، ولم يكتشف ذلك إلا من كان له علم بالنص السابق، منه ما جاء في شعر السيد علي الهندي رحمه الله:
وعـلـمتُ بمحكمة كُبرى — ستُـقام هـنالك في الحشرِ
والناس هنالك في شغلٍ — عـني وعـلى كتفي وزري
وإذا بكـتابي يشـهد في — جرمي ويُشير إلى ضري
وهذه الابيات امتصاص من قوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}.
ولاقى مصطلح التناص قبولاً منقطع النظير في البلدان العربية لدى الباحثين، في حين أن أصوله عربية ولم يأتنا من الغرب سوى المصطلح، ويبدو أن اللمسات الأولى في دخول هذا المفهوم إلى الغرب هو انتقال الأدب العربي على يد العرب الاندلسيين إليها ونقلهم تراثنا من خلال محاكاة الشعراء الاندلسيين لشعر العرب في المشرق، ونخلص من ذلك أن (التناص) مزيج من مفهوم عربي قديم ومصطلح غربي حديث.
د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي