لكن السؤال: هل نجحت استراتيجية الكيان الصهيوني، ومن خلفه الداعم الأميركي، في تحقيق مآربهما العدوانية بتدمير قدرات الحزب المتنوعة؟ وأي قدرة كشفها الحزب وسيكشفها خلال المرحلة المقبلة؟
تؤكد الوقائع والمؤشرات والتطورات المتراكمة والمتسارعة أنّ المقاومة في لبنان والمتمثلة بحزب الله، تمكّنت من استيعاب آلامها ومصابها الجلل، ونجحت في إعادة فرد جناحيها السياسي والعسكري لإعادة فرض توازن جديد في الاشتباك السياسي والعسكري في مواجهة معادلة استعادة توازن الردع الذي سعت حكومة الاحتلال الصهيوني إلى فرضها على لبنان، بما يخلقه ذلك من انعكاسات على الأمنين اللبناني والإقليمي؛ على حدٍ سواء.
هذه المؤشرات السياسية والعسكرية تزامنت بتوقيتها وتداخلات في ترجماتها التنفيذية، حتى بات العدو قبل الصديق يعترف بأن ما تعرضت له المقاومة من ضربات مؤلمة وقدرتها على استيعاب ما حصل واحتوائه، ثم الانتقال لفرض رؤيتها وإيقاعها العسكري والسياسي، هو صمود وفعل نوعي قلّ مثيله.. حتى هناك العديد من الدول الكبرى كانت لتنهار لو إنها تعرضت لما تعرض له الحزب خلال المرحلة الماضية.
يمكن إرجاع ذلك إلى:
1.البنية الهيكلية والتنظيمية المرنة التي اتسم بها الحزب والسمة غير المركزية في اتخاذ القرارات التكتيكية، والتي ميزته عن التكوينات الحزبية الأخرى، لبنانية كانت أو دولية. وهذه الميزة جعلته فاعلًا ومؤثرًا يتعدى حجم الحزب الكلاسيكي، ولا يقارن بـ”بيروقراطية” العمل المؤسساتي للدول.
2.العقيدة الجهادية والإيمانية لكوادر الحزب، على مختلف المستويات القيادية والقتالية والتنفيذية والسياسية والبرلمانية والإنسانية. وهذه العقيدة، بشقيها المقاوم والإيماني، جعلت هذه الكوادر كلها تلتزم بعملها ومسارها من دون أي عوامل مؤثرة على معنوياتها أو توجهاتها أو سلوكها الجهادي، وهو ما يجعل المنافسة والصراع داخل الحزب غائبة تمامًا.
3.القراءة الاستراتيجية للحزب، والتي طوّرت وفقًا لما يبدو بعد عدوان تموز العام ٢٠٠٦م، واغتيال القائد الشهيد عماد مغنية في العام ٢٠٠٨م، من تهيئة للكوادر وجعلها مؤهلة لاستلام زمام القيادة بطريقة مرنة وسلسة.
4.خطاب النصر الذي ألقاه سماحة قائد الثورة الإمام السيد علي الخامنئي وتوجهه للمقاومة بالصبر والثبات، بعد يومين من تنفيذ عملية “الوعد الصادق٢” ضد الكيان، وما نجم عنها من مفاعيل استراتيجية أبرزها إسقاط سرديات الدعائية الصهيونية الهادفة لخلق شرخ بين القوى الفاعلة في جبهة المقاومة.
5.العامل الأبرز والأهم هي الحاضنة الشعبية والداعمة والمؤيدة للمقاومة، والتي لم تغير من موقفها بالرغم من الآلام والمصائب كلها التي حلت بها.
للدلالة على قدرة الحزب في استعادة زمام المبادرة والقيادة والسيطرة، يمكن الاستناد إلى مجموعة من المؤشرات السياسية والعسكرية والإعلامية التي تثبت ذلك:
أولًا- على الصعيد السياسي تجلّى ذلك ضمن مؤشرين؛ الأول: فيما تضمنه تصريح نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ “نعيم قاسم” في ذكرى عملية “طوفان الأقصى”، من تأكيد على ثوابت الحزب في الوقوف إلى جانب فلسطين وعدم الخوض في المباحثات قبل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار. والأهم تأكيده عدم وجود أي فراغ في المناصب القيادية العسكرية للحزب، وكأنّ الشيخ قاسم يعبر عن توجهات الحزب في تبني استراتيجية القيادة الجماعية المشتركة على غرار ما كان عليه الحزب منذ التأسيس في العام ١٩٨٢م، وحتى انتخاب أول أمين عام له في العام١٩٨٩م، لمعايير عدة، ربما أهمها في هذا التوقيت إرباك العدو وعدم منحه فرصة، أو بهدف منح أولوية إدارة التصدي للعدوان.
أمّا المؤشر الثاني؛ يتمثل ببيان غرفة العمليات المقاومة التي كرّست ما أكده الشيخ قاسم من عودة منظومة القيادة والسيطرة أقوى وأصلب مما كانت عليه سابقًا. وهو ما انعكس عمليًا في تصريح نائب الأمين العام والبيانات المتتالية لغرفة عمليات المقاومة بإطلاق صليات صواريخ، عُدّت هي الأكبر على مناطق مختلفة في الجليل، بما فيها حيفا وصفد.
ثانيًا – على الصعيد العسكري؛ فقد تجلّت مؤشرات استعادة السيطرة والقيادة للمقاومة، بشكل واضح، من دون أي لبس، من خلال تصعيد وتيرة العمل المقاوم لكوادر الحزب وفقًا للأحداث الآتية:
1. زيادة عدد العمليات العسكرية المقاومة التي تبناها الحزب، وبمختلف مجالاتها الصاروخية والبرية والجوية، عمّا كان عليه الواقع قبل استشهاد سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله، بمعدل يتراوح بين ٢٠٠ إلى ٣٠٠%. وهذا ما يمكن استنتاجه في المقارنة بين الأيام العشرة الأولى لشهر أيلول الماضي، والتي وصلت عمليات المقاومة فيها وفقًا لبياناتها بين 11 إلى 14 عملية يوميًا، وبين عمليات المقاومة في المرحلة نفسها من شهر تشرين الأول الجاري، والتي بلغت نسبتها بين 30 إلى 35 عملية. كما أن نوعية الصواريخ ومداها أخذت منحًا جديدًا؛ سواء أكان ذلك بإدخال أسلحة جديدة من طراز “فادي” للخدمة، وهو ما ينطبق على الطائرات المسيرة، أم حتى المدى الذي تجاوزت به المقاومة عملياتها لما قارب 140كلم، والكثافة النارية.
2.زيادة عدد الفارين من المستوطنين “الإسرائيليين”، في مناطق المستوطنات الشمالية، وزيادة التقديرات الصهيونية عن زيادة موجات النازحين في حال استهدفت المقاومة حيفا الكرمل. كما توعدت غرفة عمليات المقاومة، في بيانها، بتحويلها لمنطقة مشابهة لكريات شمونة التي لم يبقَ بها سوى ألفي مستوطن من أصل 25 ألفًا، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والطرقية والعسكرية الناجمة عن استهداف حيفا الكرمل التي تحتوي على أكبر مصفاة للنفط وأكبر ميناء بحري وأهم قواعد دفاعية وعسكرية.
3.الدلالات العسكرية والأمنية والاستخباراتية إلى جانب القيادة والسيطرة، لما كشفه عنه الإعلام الحربي للمقاومة خلال عرض مقطع فيديو “هدهد٣”. إذ تكمن أهم دلالات هذا المقطع، من حيث توقيته السياسي، في استكمال عمل الوحدة الخاصة بالطائرات المسيّرة والمنظومة الجوية داخل الحزب بالرغم من استشهاد قائدها الشهيد محمد سرور . وهو ما يؤكد مصداقية كلام الشيخ نعيم قاسم وبيان غرفة العمليات بعودة السيطرة والقيادة بشكل أصلب، كون المقطع لم يتناول حيفا فقط؛ بل حيفا والكرمل أي المدينة وريفها. وتضمن بصور دقيقة جدًا بنك أهداف عسكري وتجاري واقتصادي وصناعي وسياحي وطرقي…إلخ، وبشكل يؤكد رصد التحديثات والتغييرات، وخاصة في المجال العسكري التي أجراها الكيان خلال المرحلة السابقة، وبما يؤكد وجود عناصر بشرية داخل الكيان تسهم في تحديد هذه المناطق بهذه الدقة، كون المسيّرات ترصد الصور والمناطق، ولكن لا تستطيع معرفة طبيعة هذه المواقع وأسمائها.
4.الخسائر البشرية واللوجستية التي تعرضت لها قوات الاحتلال، والتي تجاوزت ٢٠٠ جندي بين قتيل وجريح، وتدمير العديد من الآليات بما في ذلك دبابات “الميركافا”، في أثناء محاولاتها المتكررة للتوغل في الجنوب اللبناني، بالرغم ممّا نفذته من أحزمة نارية على طول الخط الجنوبي للحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والتي تزيد عن ٧٩ كلم، وصولًا الى نهر الليطاني الذي يبعد عن الحدود مع فلسطين المحتلة بما يقدر ٣٥ كلم.
5.الفشل الصهيوني المتكررة للسيطرة على بعض القرى والتلال اللبنانية المرتفعة؛ مثل: مارون الراس، جزين، مرجعيون، النبطية وغيرها، من القرى والمناطق التي تتضمن أهمية جغرافية ومعنوية، ومحاولة هذا الكيان في ظل استمرار فشله باجتياح الجنوب من تصدير صورة إعلامية بين الحين والآخر، كما حصل في مارون الراس منذ أيام عندما طرد قوات اليونيفل من مركز إقامتها وقام بتدمير حديقة إيران قبل أن يضطر للانسحاب سريعًا.
6.من النقاط البارزة والمهمة في استعادة مساري القيادة والسيطرة هو سرعة الإعلان عن بيانات المقاومة اللبناني،ة نقلًا عن الخطوط المقاتلة المتقدمة. وهذا ما يعني أن الجانب الاتصالي بين قيادة الحزب والكوادر الجهادية هي بخير، وتتم بتنسيق ومباشرة وبمتابعة لحظية، بين القاعدة والهرم وبين مختلف أجهزة الحزب، الإعلامية والجهادية والقيادية. ولعلّ سرعة الإعلان عن بعض العمليات بما لا يتجاوز ١١ دقيقة، كما حصل في أثناء إعلان المقاومة عن استهداف قوات الاحتلال وهي تحاول للمرة الثالثة سحب الإصابات من الآلية المستهدفة في منطقة رأس الناقورة بصلية صاروخية، يوم الخميس ١٠تشرين الأول ٢٠٢٤، هو خير دليل على ذلك، حين تصدت المقاومة لهذه القوات في الساعة الخامسة مساء، ونشر البيان في الساعة 5،11 مساء.
7.الرسائل الأمنية والعسكرية التي تضمنتها المقاطع المصورة، والتي نشرها الإعلام الحربي لوحدة الرضوان، في الاستعداد والجهوزية وزرع الألغام، بما في ذلك المقطع الذي نشر ليلة ٨ تشرين الأول الذي انتهى بنشر صور لبعض عناصر وحدة الرضوان وهم ينتقلون ضمن نفق، وآخرين على درجات نارية ينتظرون لحظة الصفر لاجتياز الحدود. والبيان الصادر أمس والذي حذر المستوطنين بالابتعاد عن أماكن وجود الجيش الصهيوني والقواعد العسكرية.
8.تمكّن أجهزة المقاومة من إلقاء القبض على بعض الجواسيس في الضاحية والمناطق المجاورة لبيروت من جنسيات مختلفة، أسهموا في تزويد الكيان بإحداثيات أو معلومات عن المقاومة اللبنانية، على غرار المدعو “شوكي تارتكوفسكي”، والذي يحمل الجنسيتين الأمريكية والبريطانية، ودخل لبنان على أساس إنه صحفي بريطاني، فاعتقل في الضاحية الجنوبية في بيروت لدوره في التجسس، وتبين أنه خدم في الجيش الإسرائيلي بصفة مقاتل..
ثالثًا- إلى جانب ما قدمه، ويقدمه الإعلام الحربي للمقاومة، من أداء رصين ومميز بما ينشره من مواد إعلامية تظهر حجم خسائر العدو من جهة وقوة وثبات المقاومة في مقابله، برزت أيضًا قدرة الحزب الإعلامية على رصد وتتبع الحملات الدعائية والإعلامية المحرضة على المقاومة والهادفة إلى دفع لبنان نحو الفتنة والحرب الأهلية. وقد نجح المؤتمر الصحفي الذي عقده، يوم أمس، مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب الحاج محمد عيفيف في كشف القناع عن بعض وسائل الإعلام التي تؤدي دور التحريض على المقاومة، وتبرئ العدو من جرائمه أو تسوّغ له ارتكابها، ووضع السلطات المعنية أمام مسؤولياتها لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
هذه المؤشرات وغيرها تؤكد حقيقة لا لبس فيها، في أن المقاومة وجمهورها وبيئتها وداعميها تلقوا ضربة مؤلمة وقوية وحدث جلل، بفقدان خيرة قادتها، إلا أنها لم تفقد هويتها وعقيدتها ومرتكزات ديمومتها التي يفقدها هذا الكيان الهش، والذي لا يستطيع فهمها. ولعلنا يجب أن نذكّر هذا الكيان دائما بكلام سيد الشهداء الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله عندما قال: “الخبر هو ما تشاهدونه، وليس ما تسمعونه، وبينا الأيام والليالي والميدان، فرغم استشهاد قادتنا نحن لا نهزم… عندما ننتصر ننتصر… وعندما نستشهد ننتصر.
محمد نادر العمري