أفلام تستعيد حقبات النضال والمقاومة

 “سرديّات التمرّد” من فلسطين إلى لبنان

يركّز الفيلم على معاناة القريتين الجنوبيتين، ويحكي حالة المقاومة والنضال التي كانت تخوضها القرى اللبنانية الحدودية.

2024-10-18

بعد أكثر من عام على الإبادة الجماعية المستمرّة في غزة، وامتداد الحرب إلى لبنان، في ظلّ إستراتيجيات جديدة ومخيفة للتدمير والإفلات من العقاب، لا بد من العودة إلى الأرشيف السينمائي كعمل من أعمال المقاومة.

 

حتى 23 تشرين الأول (أكتوبر)، تعرض «مؤسسة الفيلم الفلسطيني» على موقعها ال

إلكتروني مجموعة من الأفلام الفلسطينية واللبنانية، ضمن برنامج «سرديّات التمرّد». إنّه دعوة لإسترجاع وفهم السياقات التي تم إنشاؤها حول فلسطين كهدف لمشروع استعماري استيطاني طويل وعنيف.

البرنامج هو دعوة للنظر في الصورة المشوهة والمسلوبة، وأيضاً في الصورة التي تقاوم. أُنتجت الأفلام المعروضة من عام 1967 إلى عام 1984، في سياقات مختلفة، وتناولت أسئلة تتعلق بالصدمة والمقاومة بين الأجيال، فضلاً عن التاريخ الطويل للتضامن بين فلسطين ولبنان. نعرض هنا مختارات منها:

 

“جنوب لبنان: قصة قرية تحت الحصار”
(1976، جوسلين صعب، 14 دقيقة)

سافرت المخرجة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب إلى جنوب لبنان عام 1976، لتوثيق الهجمات الإسرائيلية على قريتَي كفر شوبا وحانين، للتلفزيون الفرنسي.

«جنوب لبنان: قصة قرية تحت الحصار»، يعتبر من أوائل أفلامها، وقد وثق لحظة تاريخية حساسة في الصراع اللبناني الصهيوني خلال حقبة السبعينيات.

 

يركّز الفيلم على معاناة القريتين الجنوبيتين، ويحكي حالة المقاومة والنضال التي كانت تخوضها القرى اللبنانية الحدودية. تنبع أهمية الفيلم من كونه يعبّر عن التزام صعب بقضايا التحرر والعدالة الاجتماعية ويندرج ضمن ما يسمى «سينما المقاومة»، بأسلوب واقعي وبتعاطف عميق مع سكان القرى، إذ يركز على حياتهم اليومية ومعاناتهم جراء الحصار، ويظهر أيضاً قوّتهم وصمودهم في وجه الظروف القاسية.

 

تستخدم صعب الكاميرا كأداة لنقل النضال الشعبي ضد العدوان وتوثيقه. الفيلم وثيقة تاريخية ذات جانب إنساني عميق، إذ لا يكتفي بتصوير المعارك والدمار، يل يركز على حياة الناس وعلاقتهم مع الأرض والوطن.

 

“كفر شوبا”
(1975، سمير نمر، 35 دقيقة)

 

«رأس سهم المحارب الصامد»، هكذا يعبّر صوت الراوي عن قرية كفر شوبا اللبنانية، التي كانت موقعاً للتضامن بين الشعب اللبناني والمقاومة الفلسطينية بعد معركة شرسة ضد العدو الصهيوني دمّرت القرية.

 

العمل الذي أنتجته «مؤسسة السينما الفلسطينية» في بيروت، وأخرجه العراقي سمير نمر، يضيء على معاناة سكان القرية في جنوب لبنان خلال السبعينيات في ظل الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

 

يتميز العمل بأسلوبه الوثائقي الذي يحكي الصمود والنضال الشعبي، كما يتبع المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين وهم يختفون بين بساتين الزيتون خلال معاركهم مع العدو.

 

“مئة وجه ليوم واحد”
(1972، كريستيان غازي، 64 دقيقة)

يعتبر المخرج اللبناني الراحل كريستيان غازي أنّ فيلمه «مئة وجه ليوم واحد» بمنزلة «بيانه الشخصي». غازي المعروف بأسلوبه السياسي الطليعي، يقدم في فيلمه التجريبي تعليقاً فريداً على الأيدولوجيات السياسية والصراعات المجتمعية وطبيعية المقاومة، باستخدام تقنيات السرد المجزأة والرمزية المجردة.

 

«مئة وجه ليوم واحد»، أحد أهم أعمال غازي وأكثرها جرأةً، سواء من الناحية الموضوعية أو الفنية. يتحدى الفيلم السرد التقليدي عبر مزج السوريالية والواقعية على غرار الأفلام الوثائقية والمونتاج الجذري، ما يعكس السياق الاجتماعي والسياسي المضطرب في ذلك الوقت، وخاصة القضية الفلسطينية وصراعات العالم العربي. يستخدم غازي، الذي انخرط بعمق في الحركات اليسارية ونضالات التحرّر العربية، الفيلم كلوحة لاستكشاف تعدد التجارب الإنسانية في مواجهة القمع والاستغلال والحرب.

 

ما يجعل الفيلم مميزاً هو رفضه اتباع هياكل السرد الخطية أو التقليدية. بدلاً من ذلك، يستخدم الفيلم سلسلة من الصور غير المترابطة لاستحضار الاستجابات العاطفية والفكرية.

 

وهو مليء بالقطع السريعة والمشاهد المتجاورة والعواطف المتناقضة، ما يعكس انتقاد غازي للوضع السياسي والنظام الرأسمالي العالمي الأوسع. يؤكد الفيلم أن حياة البشر، وخصوصاً في سياق الحرب والقمع، مجزأة ومتعددة الأوجه، ولا يمكن تعبئتها بدقة في سرد مفرد.

 

“إصرار”
(1982، مونيكا مورير، 28 دقيقة)

مونيكا مورير، المخرجة الإيطالية ذات التوجه السياسي، انتقلت إلى بيروت عام 1977، للعمل مع «مؤسسة السينما الفلسطينية». وعلى مدار خمس سنوات، صنعت ستة أفلام وثائقية مع المقاومة الفلسطينية وعنها.

 

«إصرار» أحد هذه الأفلام، يتعمّق في تعقيدات النضال الفلسطيني، مع التركيز على الأحداث المحيطة بالغزو الإسرائيلي للبنان. يعكس الفيلم بعنوانه الإنكليزي “?Why”، سؤالاً يخيّم على الوثائقي بأكمله: لماذا يُفرض هذا العنف والظلم على الشعب الفلسطيني؟

ولماذا يظل العالم غير مبالٍ بمعاناته؟ تقدم مورير الفيلم باعتباره نقداً مؤثراً للاحتلال الصهيوني والقوى العالمية التي تمكّنه أو تظل صامتة بشأنه. باستخدام مزيج من المقابلات واللقطات الأرشيفية ومشاهد من أعقاب الغزو، تخلق مورير سرداً خاماً ومتعاطفاً، يسلط الضوء على الكلفة البشرية للصراع.

 

لا يخجل الفيلم من إظهار وحشية العنف، لكنه يوازن بين هذا وموضوع أساسي يتمثل في المرونة والمقاومة والنضال المستمر من أجل العدالة. أسلوب مورير مباشر وحازم.

 

تتجنب الإثارة وتختار بدلاً من ذلك نبرة أكثر رصانة وتأملاً، ما يسمح لأصوات المتضررين من الصراع بأن تكون في مركز الصدارة. الفيلم مشحون سياسياً، يعكس التزام مورير بالقضايا المناهضة للإمبريالية والاستعمار.

 

إنه ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل دعوة إلى العمل، إذ يطلب من المشاهدين مواجهة الأسئلة الأخلاقية التي يثيرها الاحتلال والعنف المستمر في المنطقة.

 

“عدوان صهيوني”

(1972، مصطفى أبو علي، 21 دقيقة)

لعب مصطفى أبو علي، الذي يُنظر إليه باعتباره أب السينما الفلسطينية، دوراً مهماً في توثيق السردية الفلسطينية وتشكيلها عبر الأفلام. كان أبو علي، أحد مؤسسي «مجموعة السينما الفلسطينية» (تأسست عام 1968)، ملتزماً باستخدام السينما كأداة للمقاومة والنضال. أصبحت السينما الفلسطينية، بقيادة أبو علي ومعاصريه، جزءاً أساسياً من حركة المقاومة.

 

لم تكن أفلامهم مجرد أعمال فنية، بل كانت أدوات تعبئة سياسية، تهدف إلى رفع مستوى الوعي بالقضية الفلسطينية سواء داخل العالم العربي أو على المستوى الدولي. «عدوان صهيوني» هو مثال رئيسي عن هذا النهج: أُنتج الفيلم في أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية عام 1972، على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا.

 

وكانت هذه الغارات انتقامية بعد العملية التي استهدفت الوفد الرياضي الإسرائيلي المشارك في أولمبياد ميونيخ في العام نفسه. يوثق الفيلم الدمار والعنف والنزوح الناجم عن هذه الهجمات، بينما يلتقط أيضاً السياق السياسي الأوسع للصراع الصهيوني الفلسطيني.

 

لا يركز الفيلم على معاناة الفلسطينيين فحسب، بل يؤكد أيضاً صمودهم ودور المقاومة المسلّحة في مواجهة الاحتلال والعدوان. يتميز نهج أبو علي في «عدوان صهيوني» بالتزامه بتصوير الشعب الفلسطيني ليس كضحايا سلبيين، بل كمشاركين نشطين في نضالهم من أجل التحرير.

 

الفيلم حزبي بلا اعتذار، ويوجّه إدانة واضحة ومباشرة إلى الأعمال العسكرية الصهيونية، التي يضعها أبو علي كجزء من مشروع استعماري أكبر. يستخدم لقطات حقيقية من أعقاب التفجيرات، ومقابلات مع الناجين، ومشاهد لمقاتلي المقاومة لبناء رواية عن المقاومة والمرونة.

 

اللغة البصرية للفيلم مباشرة، مع لقطات تبدو غالباً فوضوية وغير مصقولة، وهي انعكاس للواقع المكثف والمتقلب الذي يصوّره. كما أنّ استخدام التعليق الصوتي والمقابلات ملحوظ في الفيلم.

 

لا يتردد أبو علي في السماح للأشخاص على الأرض – اللاجئين والمقاتلين والناجين – بسرد قصصهم الخاصة. توفر أصواتهم رواية مضادة قوية لتصوير وسائل الإعلام السائدة للصراع في ذلك الوقت، والتي غالباً ما تجاهلت السردية الفلسطينية أو قللت من أهميتها.

 

 شفيق طبارة

المصدر: الوفاق/ وكالات