الصبر أيقونة الحياة

نحن أمام مهمة من العيار الثقيل، وهي صناعة الصبر والتمسك به، واعتماده في جميع تفاصيل حياتنا، لأن الصبر هو مفتاح التوفيق، وكما هو معروف، فالإنسان الصبور هو الإنسان الذي يحقق أعظم النجاحات في حياته، ويجعل منها محطة مناسبة ينطلق منها نحو آخرة مضمونة...

2024-10-18

الحياة نوعان، أو شكلان، الحياة الدنيا التي نعيشها اليوم، والنوع الثاني الأخرى التي نخطط لها كي نعيشها غدا بنجاح، أو الأصح يجب أن نخطط كي نضمن الفوز بها، وكلاهما أيضا لا يمكن الفوز بهما إلا بـ (الصبر)، فمثلما يصف أرباب الكلمة وصنّاعها بأن الصبر أيقونة الحياة، فهو في نفس الوقت أعظم السبل لبلوغ الدار الأخرى بنجاح مضمون.

 

لا شيء يرسم النجاح في طريق الإنسان إلا ولصيقهُ الصبر، بل في غياب الصبر يغيب النجاح بأشكاله وأنواعه كلها، البذور التي ينثرها الفلاح في أرضه، يحتاج إلى صبر عظيم ومداراة كبيرة جدا لكي يُثمِر، وكلما كان الصبرُ كبيرا كان المحصول هائلا أيضا، وهذا يعني أن هناك مستويات أو درجات للصبر، فمنه الصبر الذي يمتد شهورا، فيبدو للآخرين بأنه صبر كبير، ولكن هنالك الصبر الذي يمتد لسنين متواصلة، فما أعظم قلب الإنسان الذي يواصل الصبر سنوات لكي يصل إلى مراده؟

 

فالصبر إضافة إلى أنه أيقونة الحياة الصالحة، فهو في نفس الوقت يقدم المساندة والمعونة القصوى للإنسان لكي يصل بصورة مضمونة إلى أهدافه، وبعض هذه الأهداف تبدو مستحيلة، لكن الصبر لا يعترف بالمستحيل، ولا يقف أمامه هدف ما حتى لو كان من الأهداف المحاطة بالمعرقلات والصعوبات الشديدة، الصبر هو ما يحتاجه كل إنسان لكي يصل إلى ما ينوي الوصول إليه، على أن يقع ذلك ضمن دائرة المسموح شرعا وقانونا وعُرفًا.

 

فالأهداف الخارجة عن نطاق المشروع، لا يقف معها الصبر ولا يؤازرها، ذلك أن صاحب الهدف غير المشروع غالبا ما تجده متسرعا، يريد أن يقطف الأرباح بأسرع وقت ممكن، لهذا هو لا يصاحب الصبر، ولا يفكر فيه لأن طريقه غير المشروع يعرف بأن الصبر لا يؤازره، ولا يسانده، وهو أيضا يكره الصبر الذي يطالب بالتأني والحكمة والاستقامة، وهذه كلها تتناقض كلّيا مع الأهداف الخارجة على الشرع والعُرف والقانون الوضعي أيضا.

 

(الصبر إذن معونة يستعين بها المرء للوصول إلى النتائج المطلوبة، ومن أهم الأمور المطلوبة للوصول إلی هذا الصبر في أمور الدين وهداية الناس وإرشادهم هو التحمّل والصبر والاستقامة).

 

أساليب التوعية والتنوير

 

من القضايا التي يتناغم معها الرأي الأعمّ، أن هناك حاجة لتوعية العقول، وبعضها غاطس في غفوة طويلة، لهذا يحتاج هذا النوع من العقول إلى صدمات وعظية بالغة القوة، ولكن حتى الوعظ وحده لا يكفي.

 

هناك حاجة للصبر في القضايا التي تُقدَّم للناس لكي يفهموا أقرب الطرق التي توصلهم إلى الاستقامة، إنه الصبر ولا سواه، بل إن جميع وسائل التوعية التي تستهدف العقول الغافية، لابد أن يساندها الصبر حتى تنجح وتؤتي أُكُلُها، فإذا غاب الصبر عن الوعظ، أو عن سبل الهداية، أو عن النصح، فإن النتائج تكون غير مضمونة، لأن ما يضمن نجاح أساليب التوعية هو الصبر الذي يفتح الآفاق الواسعة أمام العقول المغلقة.

 

(مجرد الوعظ وحده، لا يكفي لطلب الهداية على الأغلب، ومجرد النصيحة أيضاً لا تكفي بمفردها لتحقيق الهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما أيضاً لا يكفيان للوصول إلى برّ الهداية، لأن الوعظ والنصيحة والأمر بالمعروف كلها أمور تحتاج إلى صبر لتصبح مثمرة وناضجة).

 

لماذا أطلقوا على الصبر أيقونة الحياة، ولماذا نحتاجه في الدارين الأولى والثانية، الإجابة سهلة وبسيطة، فإن جميع علاقات الإنسان وأموره التكوينية لا يمكن لها أن تُنجَز إذا لم يدعمها الصبر، العلاقات الأسرية على سبيل المثال، هل يمكن لها النجاح في غياب الصبر، الزوج الذي لا يصبر على زوجته، والزوجة التي لا تصبر على زوجها هل يمكنهما بناء أسرة؟

 

الصبر وبناء العلاقات الراسخة

 

إن هذا الهدف سوف يكون أقرب إلى المحال، وكذلك في مختلف العلاقات التي تربط الناس مع بعضها، فإن الصبر وحده من يجعلها ممكنة ومستمرة، لذلك تجد العلاقات التي لا يسندها الصبر تتبخر في لحظات، ولا تصمد بين الأشخاص أو حتى الجماعات والدول، الصبر هو الرابط الأعظم لتنمية العلاقات وتحصينها وتطويرها، ولذلك أينما وُجدَ الصبر وُجِدَ النجاح.

 

من هنا  على أن الإنسان:

 

(إذا عزم على الصبر عليه أن لا يترك ذلك حتى يحقق هدفه من وراء الصبر، وينبغي الإشارة هنا إلى أن كل الأمور بحاجة إلى صبر، منها الأمور التكوينية كالزواج والعلاقات الأسرية والصداقات مع الآخرين، هذه جميعاً بحاجة إلى صبر، لكن الاختلاف في درجات الصبر والفترة التي يستغرقها وهذا مختلف بحسب الأشياء ومقدار حاجتها للصبر).

 

وهكذا يتضح لنا جميعا بأن الصبر حجر الزاوية في ترسيخ الحياة الصالحة وتطويرها وتنميتها، وهو أيضا طريقنا إلى الحياة الأخرى، فالصبر وحده هو الضامن للنتائج التي تمنح الإنسان فرصة الجمع بالفوز في الدارين الأولى والثانية، مع أننا جميعا نقرّ بأن الدار الأخرى هي الحلم الأعظم للإنسان، ولكن صنع الحياة الأولى ممكن في وجود الصبر.

نعم هناك بعض الأهداف لا تستحق الكثير من الصبر، وبعضها تتطلب صبرا أكبر، في حين هناك أهداف تتطلب من الإنسان صبر سنين متتالية، ولكن على العموم يجب علينا أن نقرّ ونؤمن بأن حياتنا لا يمكن لها الرسوخ والاستقامة هذا فقدنا فيها الصبر.

يوضّح سماحة المرجع الشيرازي دام ظله هذه النقطة بالقول:

(يوجد أمران مهمان في الصبر، الأمر الأول: أن يعلم الإنسان أن الحياة الدنيا مبنيّة على الصبر، كما الحياة الآخرة. فالإنسان لا يصل إلى النتائج الدنيوية أو الأخروية المرجوّة إلا عبر الصبر. وأما الشيء الآخر فإن مقدار الصبر يختلف بحسب حجم الأمور وهذا ما أشرنا له من أن بعض الأمور بحاجة إلى صبر قليل وبعضها بحاجة إلى صبر كثير).

 

إذن نحن أمام مهمة من العيار الثقيل، وهي صناعة الصبر والتمسك به، واعتماده في جميع تفاصيل حياتنا، لأن الصبر هو مفتاح التوفيق، وكما هو معروف، فالإنسان الصبور هو الإنسان الذي يحقق أعظم النجاحات في حياته، ويجعل منها محطة مناسبة ينطلق منها نحو آخرة مضمونة.

 

(على الإنسان أن يعزم على الصبر حتى يصل إلى النتائج المرجوّة، فلو وصل إليها فإنه سيوفق أكثر من غيره، وأن لا يفقد أعصابه إن كان هناك تأخير في النتائج).

 

وأخيرا أليس الصبر أيقونة الحياة، فلا شيء فيها يمكنه التخلي عن الصبر، وليس هناك بشر يريد الفوز في الجمع بين الدارين إلا واعتمد على الصبر سندا له، وطريقا واضحا يقوده إلى أعظم الأهداف وأفضلها.

المصدر: شبكة النبأ

الاخبار ذات الصلة