من جذور الأرض إلى وسط السماء محلقاً

رحل السنوار مقاتلاً ويده على الزناد وقائداً وطنياً ووحدوياً، وبكته كل نساء وأطفال وأحرار فلسطين والعالم، بكته السهول والجبال وتراب الأرض واجنتها، بكته القلوب قبل العيون معلنة اليتم الحقيقي الذي بتنا نعيش فيه

2024-10-20

 

د.سناء محمود خليل زكارنة

 

هي قصة لم تبدأ منذ هذا اليوم، وإنما كتبت تاريخاً قبل إثنين وستين عاماً حينما نمى جنيناً في أحشاء سيدة فلسطينية تذوّقت مرارة اللجوء وأنجبته بعيونه الحادة وروحه الوطنية ذات الإنتماء المتجذر بعمق هذه الأرض وعبق الياسمين في شوارع وأزقة القدس العتيقة.

 

يحيى السنوار القائد الوطني الملتزم، المجاهد الأصيل الذي تربى في زقاق مخيمات اللجوء حتى ظهرت علامات تلك المخيمات في وجهه ومحيّاه وندبات نكشت ملامحها في شتى أنحاء جسده، عشق الأرض وترابها وتنسّم هواء جبالها وعيونه ترنو نحو سماء القدس متمنياً الصلاة فيها ممنوعاً من الوصول إليها.

 

اعتنق حبّ العقيدة على أيدي شيوخه وتتلمذ على كره ونبذ الإحتلال ولم يكن يوماً مهادناً، بالرغم من سنين سجنه الطويلة والتي ألزمته الزنازين وجدرانها، لأكثر من ثلاث وعشرين سنة متنقلاً بين زنزانة وأخرى ومن معتقل إلى غيره.

 

خرج من سجنه وهو مازال يحلم بتحرير زملاء سجنه وتخليصهم من غياهب السجون بأي وسيلة وفك قيود الظلم والقهر عن أجسادهم.

 

هندس “طوفان الأقصى” ورسم معالمه وانتفض بوجه محتليه، فكان السابع من أكتوبر يوم ميلاد مجيد في تاريخ قضيتنا الفلسطينية ويوماً مفصلياً حيث استعاد الفلسطيني روحه النضالية والمعنوية وقدرته على تهشيم وتمريغ أنف الإحتلال، فكانت المرة الأولى التي يدخل فيها الثوار لأراضينا المحتلة عام ١٩٤٨ وأسر جنود صهاينة لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين، يوم كبَّر فيه الفلسطينيون في الضفة وغزة والقدس والشتات وفي سجون الاحتلال معلنين النصر المبين وكأنه الفتح العظيم الذي طالما حلموا به.

 

واليوم مرّ عام على الطوفان وبالرغم من سردية الإحتلال وإعلامه المزيّف الذي خرج ليشوِّه قادة المقاومة وعلى رأسهم الشهيد يحيى السنوار «أبو إبراهيم السنوار» فتارة يتهمونه بالإختباء بين المدنيين ليبرروا مجازرهم التي يرتكبونها بحق الأطفال والنساء وتارة يروجون أنه يختبئ بالأنفاق تاركاً شعبه يواجه الموت وحده، ليكتشف الجميع زيف الإدعاءات الصهيونية، وتظهر حقيقة هذا المناضل الذي كان يقود المعركة من فوق الأرض مشتبكاً ومتنقلاً بين العقد القتالية طالباً الشهادة في سبيل الله.

 

رحل السنوار مقاتلاً ويده على الزناد وقائداً وطنياً ووحدوياً، وبكته كل نساء وأطفال وأحرار فلسطين والعالم، بكته السهول والجبال وتراب الأرض واجنتها، بكته القلوب قبل العيون معلنة اليتم الحقيقي الذي بتنا نعيش فيه.

 

نعم، رحل السنوار وهو يحمل في قلبه الوجع الدائم من رسالة الخذلان فلم يكن يتوقع يوماً أن الدماء الفلسطينية تهون على مسلم وعربي وتُنتهك الحرمات في ظل صمت عربي وإسلامي مخزٍ، وليت الخزي توقف عند الصمت؛ بل ذهب البعض للتآمر على القضية الفلسطينية ومقدساتها، ولم يبقَ ومساندة غزة سوى محاور المقاومة التي نفضت غبار الذل والهوان معلنة الإستمرار في مقاومة آلة الإرهاب الصهيونية.

 

نعم، رحل السنوار ولديه ما يقوله إلى الله، فدماؤه وحكاياته ورسائل الوجع ونزيف أطفال غزة ذهبت بكل أسطرها وتفاصيلها للسماء؛ وسنكون أمام رسائل ربانية وأسهم تخترق كبد العدو، فعذاب الله وانتقامه إن حل ليس له حدود، وسيذهل منه العقل البشري كيف لا وهو الذي يقول للشيء كُن فيكون.

 

رحلت وأنت الحيّ فينا، وستبقى أيقونة وطنية وملهمة للأجيال القادمة، فلقد رحلت جسداً وسكنت روحك صدور الأحرار، وسيعلن مع النصر قريباً ميلاد آلاف السنوار.

 

المصدر: الوفاق/ خاص