في توثيق ورصد المعاناة والإبادة والقهر، والتنبيه

“أن يكون موتي حكاية”.. غزيون حول جدوى الكتابة: هذه أصواتنا

تنهض الكتابة في قطاع غزة في مواجهة الإبادة الجماعية الصهيونية المتواصلة منذ أكثر من عام.

2024-10-25

من الكتابة الورقية إلى التدوين على مواقع التواصل. كيف يرى كتّاب غزيون وظيفة جدوى الكتابة تحت النار؟

 

تنهض الكتابة في قطاع غزة في مواجهة الإبادة الجماعية الصهيونية المتواصلة منذ أكثر من عام. فقد توالى إصدار عدد من الكتب تحت عناوين مثل “شهادات” أو “وصايا” أو “يوميات”، لكتّاب وكاتبات من القطاع، يوثّقون معايشتهم اليومية للحرب، ويدوّنون وصاياهم أو يومياتهم أو ما يريدون تركه للمستقبل.

 

من هؤلاء رفعت العرعير، الذي وقف على هذه الحالة عام 2014، في مقالة نشرها بعنوان “غزة ترد بالكتابة، رواية فلسطين” (ترجمها عبد الرحيم الشيخ، ونشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية). ولكن ما رُصِد وقتها كانت الأعمال المنشورة ورقياً على هيئة كتب فردية أو الجماعية.

 

اليوم، لا بدّ من تسليط الضوء على كتّاب وكاتبات غزة الذين ينشطون، على الرغم من الوضع القاهر، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وينشرون يومياتهم أو نصوصهم الأدبية هناك.

 

التقينا 4 كتّاب شباب غزيين ممّن أُتيح لنا التواصل معهم، وفي ما يلي ما قالوه.

 

أن يكون موتي حكاية

 

سلمان أحمد، صدر له عملان من قبل هما “هناك في الخارج”، وهي رواية حازت “جائزة دولة فلسطين للمبدعين الشباب” عام 2023، ومجموعة قصصية بعنوان “لا أحد يختار مدينته”، صدرت السنة الحالية، وينشر الآن على مواقع التواصل. يقول أحمد عن معنى الكتابة وجدواها:

 

“كنتُ ولا أزال مؤمناً أن الكتابة هي نوع من أنواع المقاومة، واحدة من الطرق التي يعبّر فيها الفلسطيني عن نفسه وعن نكبته وبلاده، عن بحر هذه المدينة، وضيقها واتساعها في آن، يصرخ ويدافع ويروي حكايات الموت والنزوح كي لا ينسى أحدٌ ما الذي حدث. من الضروري جداً أن يروي الغزي حكايته، أن يكون هو العين التي من خلالها يرى العالم غزة، ربما تظهر في شاشات التلفاز وعلى منصات التواصل أرقام الشهداء، ولا أحد يعرف قصصهم، أحلامهم، اليوم العادي الذي عاشوه قبل الرحيل، لحظة ما قبل الرحيل. في حين تتعامل المنصات مع الشهداء والبيوت، والحرب بمبدأ الأرقام. نحاول بكل ما استطعنا، أن نشير إلى الاحتلال بأصابعنا العشرة بوصفه مجرماً وقاتلاً واحتلال مسخ، نقول عن الشهداء استشهدوا لأن الكيان الصهيوني قتلتهم.

 

في القصص التي نكتبها عن المدينة وأهلها، يظهر الجانب الإنساني العادي للغزي، الذي يرغب في لقمة طعام جيدة، ألا يقف في طابور الماء، أن يعود إلى البيت، أن يجد البيت. الكثير من القصص والوجوه غابت في ركام المدينة وصارت تحتها، مهمتنا الأساسية ككتّاب، وجزء من المقاومة المستمرة أن ننبش عن هذه القصص، أن نرفع صوتها للعالم، أن يكون موتي حكاية، كما قال الشهيد الكاتب رفعت العرعير. أن يرى الآخرون الغزي كأي إنسان، يأمل بانتهاء الحرب، ويريد أن يتحرر أيضاً. في اعتقادي أن الكتابة جزء أصيل من عملية التحرر، من المقاومة، من محاولة إظهار الحقيقة، من محاولاتنا المستمرة والدؤوبة للعودة إلى البلاد. هكذا وبهذه الطريقة أفهم الكتابة وأنتمي إليها، لأن ما يحدث على الأرض مخيف، وبحاجة إلى توثيق منّا نحن أصحاب الأرض والهوية والمكان، فإن لم نكتب قصصنا، ونروي الأرض بدمنا، فمن الذي سيفعل؟ وما الرواية التي من الممكن أن تروى عن غزة في المستقبل؟”.

 

التوثيق والتنبيه: بين السياسي والإنساني

 

أما الكاتب الشاب أنور يوسف، فيشير في حديثه معنا إلى أهمية الكتابة اليوم في غزة، فهي “تعبر عن الهوية والثقافة المحلية وتساهم في توثيق التجارب اليومية والتحديات التي يواجهها الناس. ولتحقيق هذه الفعالية، من المهم دعم مبادرات الكتابة، وتوفير المساحات للنشر، وتنظيم ورش تطوير المهارات الكتابية.

 

ويضيف “نعم، الكتابة في غزة اليوم تُعتبر نوعاً من الرد على التحديات والضغوطات التي يواجهها المجتمع. تعكس الكتابات الأدبية والسياسية والقصصية الآلام والآمال، وتُعتبر وسيلة لمواجهة القمع والتعبير عن المقاومة الشعبية.

 

الكتابة تُعبر عن الهوية الفلسطينية، وتوثق التجارب اليومية، بينما تساهم في تعزيز الوعي وتطوير الحوار حول القضايا المجتمعية. من خلال الكلمة، يُمكن للفلسطينيين في غزة التعبير عن مواقفهم والمطالبة بحقوقهم، مما يجعل الكتابة أداة قوية في مواجهة الواقع والاحتلال. الكتابة من الداخل الغزي تلعب دوراً مهماً ومتعدد الأبعاد، منها التوثيق: تُسجل الكتابات الأحداث اليومية والتجارب الفردية والجماعية، مما يساعد على بناء أرشيف تاريخي يُخلد الذاكرة الفلسطينية.

 

والتنبيه: حيث تساهم الكتابة في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتنبه المجتمع المحلي والعالمي إلى الأوضاع الصعبة التي يعاني منها الناس. من خلال هذه الأدوار، تُصبح الكتابة أداة فعالة للتغيير والتعبير عن الطموحات والتحديات في غزة. يجب على الكاتب الغزي اليوم أن يسعى لتحقيق توازن بين الخطاب السياسي والخطاب الإنساني، فهما متداخلان بشكل وثيق. الخطاب السياسي يعكس واقع الحياة تحت الاحتلال والتحديات اليومية، بينما الخطاب الإنساني يعبر عن المشاعر، والأحلام، والتجارب الشخصية التي يعيشها الناس. بهذه الطريقة، يصبح دور الكاتب الغزي مركزياً في نقل التجارب الحقيقية والمساهمة في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي”.

 

تشكيل للوعي

 

أما الكاتب الشاب يوسف يعقوب أبو العطا، فيتحدث عن دور الكتابة في تشكيل الوعي، وكيف تكون عاملاً أساسياً في ذلك.

 

ويضيف أنها “تتحقق أيضاً عبر إصرار الكاتب والجهة المتكفلة بالنشر على تصدير هذه الأعمال والمحتويات الثقافية بكافة أشكالها إلى كل بقاع الأرض، مع إصرار على إيصال الثقافة الخاصة بنا: “مَن أكون” إلى كل بلد وحتى إلى كل بيت. وتصبح فاعلة أيضاً عبر تعظيم وتكريم دور الكاتب والكتابة في مجتمعنا؛ أعتقد وقتها ستكون الكتابة ذات جدوى وناجحة. الغزي حين يكتب لا يستطيع أن يهرب من مأساته، إذ تغلب على الكتابات الغزية النزعة الثورية والمأساوية، فهو لا يستطيع أن ينفك ويخرج عن هذه الدائرة التي تؤرقه.

 

ويوضح “الكتابة الغزية نوع من الرد، نعم هي كذلك، ولكن على عدة صعد وأهمها وأساسها الرد برفض الاحتلال وممارساته البشعة بحق الفلسطينيين، وعلى صعيد آخر هو الرد الداخلي الذي يوجه إلى أصحاب المسؤولية والسلطة التي تحكم الشعب المطحون.

 

إن دور الكتابة والكاتب يتمثل في توثيق ورصد المعاناة والإبادة والقهر، والتنبيه أيضاً، ولكن أريد أن أقول إن التنبيه يكون لأنفسنا نحن الغزيين وليس لغيرنا، هذا التنبيه، هو أننا لا بد أن نكتب الحقيقة بكل شفافية عما هو حاصل لنا في غزة من جانب ما يصنعه الاحتلال بنا، وما يفعله الذين يدّعون الوطنية بمسميات كثيرة وشعارات فضفاضة وتضخيم واهم.

 

ولكن مع الأسف صوت الكاتب في غزة مخمود ومهمش. إن الكاتب الغزي لا يستطيع أن يفصل بين السياسة والإنسانية لسببٍ وجيه؛ هو أن كل حياته رهن المتغيرات والتقلبات السياسية الداخلية والخارجية بشكل يومي؛ فأصبح غير قادر على الفصل، وعلى الرغم من ضرورة الفصل كأي إنسان طبيعي في هذه الدنيا لكنه لا يستطيع؛ لأنّ الجانب الإنساني نفسه في حياته متعلق بالسياسة وبحقوقه المسلوبة”.

 

الكتابة رداً على الإرجاف

 

يرى الكاتب الشاب يوسف دبور أن جدوى الكتابة تتمثل في “التخفيف من أعباء الحياة غير المحصورة، لا سيما الطاقة السلبية المتجددة مع استمرار الإبادة، واستمرار تحقيق أدنى متطلبات البقاء حياً. أما لو نظرنا إلى فاعليتها كإيصال صورة حقيقية للوضع هنا، فالصورة أبلغ من الكلام حقيقة، إذ كان للصحافة الدور الأكبر، ومع ذلك فإن مدى جدوى الصورة الفعلي بالنسبة للغزيين غير مجدٍ، ولا أعتقد أنها أحدثت فارقاً يمكن النظر إليه باهتمام من المواطن الغزي”.

 

ويضيف “لكن هذا كله لا ينكر دور الكتابة، خصوصاً المقالات والقصص القصيرة التي تنشر في الصّحف الأوروبية والأميركية. فالساحة الفلسطينية اليوم هي الساحة الأكثر تناولاً بين المجتمعات. والحقيقة أن الكتابة رد بالمطلق، إن كان ذلك كرد على الإرجاف، أو كان رداً كفعلٍ مقاوم، فالكتابة مقاومة والمقاومة كتابة.

 

أما عن دور الكتابة النابع من غزة، فقد أحدثت فارقاً عجيباً. إذ بالنظر إلى نصوص الغزيين، فإنك تجد فيها تفاصيل المعاناة اليومية، التي ربما لا تظهر في الإعلام ولا حتى يمكن الاعتقاد بأن الغزي وصل إلى هذا الحدّ من الشقاء. في اعتقادي أن مهمة الكاتب اليوم إنسانيّة بحتة، من كتابة المعاناة اليومية وتفاصيلها، ونفوس الغزيين اليوم بين متفائل ومتشائم، بين متأقلم ورافض لروتين الحياة القاتل المستمر منذ عام”.

 

يوسف م. شرقاوي

كاتب فلسطيني مقيم في سوريا

المصدر: الوفاق/ وكالات