من لبنان إلى كربلاء.. حكايات النزوح وحنين العودة

لقد أثبت العراقيون أنهم أخوة حقيقيون، لا يفصل بينهم وبين اللبنانيين سوى الحدود. قدموا كل ما بوسعهم لإسعاد هؤلاء النازحين والتخفيف من معاناتهم، وجعلوهم يشعرون كأنهم في وطنهم الثاني

2024-10-26

د. بتول عرندس

 

في رحلة النزوح إلى العراق، يروي النازحون من لبنان حكاياتهم بكل ما تحمله من ألم ووجع، وكأنهم يقتلعون أنفسهم من جذورهم ليعيشوا غربة قسرية. الطريق إلى كربلاء لم يكن سهلاً؛ قطعوه عبر البر، عبر الحدود والأودية، على متن الحافلات التي حملت همومهم وآلامهم، واجهوا الصعوبات والخوف، لكنهم لم يجدوا خياراً آخر سوى المغادرة. لم يكن نزوحهم ترفاً، بل ضرورة فرضتها الظروف القاسية التي جعلت البقاء في الوطن أشبه بمعركة من أجل البقاء على قيد الحياة.

 

عندما وصلوا إلى كربلاء، أرض الإمام الحسين(ع)، وجدوا شعباً عراقيًا فتح لهم ذراعيه بحب وكرم لا حدود له، ليؤكدوا بذلك مقولة «العراق بلد العطاء». لم يكن الترحيب مجرد كلمات، بل تجسد في الخدمات والرعاية التي قدمتها العتبة الحسينية والعتبة العباسية، حيث خصصت لهم مجمعات سكنية وفنادق تستقبلهم بكل احترام وكرامة. هؤلاء الذين كانوا يعيشون في بيوتهم الآمنة بين أحبائهم، وجدوا أنفسهم اليوم يجلسون في الغرف المخصصة للنازحين، لكنهم لم يفقدوا الأمل ولم يستسلموا للظروف.

 

كل لقاء مع نازح يحمل معه حكاية يختلط فيها الشجن بالفخر. جلست مع الأمهات اللواتي يتحدثن عن أبنائهن الشهداء، عن الصبر الذي تعلموه من أهلهم، وعن الأمل الذي يزرعونه في قلوب أطفالهم. تحدثني إحداهن عن ابنها الذي غادر ليجاهد ويدافع عن أرضه، بينما عيناها تمتلئ بالدموع، ويخنقها الحنين الذي لا ينطفئ. هناك أيضاً الأطفال الذين يسيرون مع أمهاتهم إلى ضريح الإمام الحسين(ع)، يقولون: «نأتي هنا كي ندعو لوالدنا الشهيد»، وهم يستنشقون في كل خطوة عبق ذكرياتهم مع آبائهم.

 

التقيت برجل كبير في السن، يجلس ممسكاً بعصاه التي ترتجف بين يديه، وعيناه تذرفان الدموع بينما يحدثني عن أرضه في الجنوب اللبناني. وصف لي الصباحات الجميلة في قريته، عن رائحة التراب عندما تبلله الأمطار، وكيف كانت أرضه تشهد على كل خطوة وكل غرسة زرعها. لم يتمالك نفسه عن البكاء وهو يتحدث عن أشجار الزيتون التي كانت حياته وحياة أجداده، وعن العزة التي يشعر بها وهو يتذكر كل لحظة من نضاله للحفاظ على الأرض الطاهرة من أي تدنيس.

 

ومن فندق إلى آخر، كنت ألتقي بالنازحين الذين يحملون على أكتافهم أثقال الوطن والحنين، يتحدثون عن الأمل بالعودة، عن الشوق الذي لا يغيب، وعن اليوم الذي تتوقف فيه الحرب ليعودوا إلى أرضهم ويعيدوا بناء بيوتهم في الجنوب والبقاع والضاحية. رغم الترحيب العراقي الحار، يبقى حنينهم للوطن يفوق كل شيء، كأنهم يترقبون تلك اللحظة التي يعودون فيها إلى أرضهم ليعيدوا الحياة إلى ما تبقى من ذكرياتهم.

 

لقد أثبت العراقيون أنهم أخوة حقيقيون، لا يفصل بينهم وبين اللبنانيين سوى الحدود. قدموا كل ما بوسعهم لإسعاد هؤلاء النازحين والتخفيف من معاناتهم، وجعلوهم يشعرون كأنهم في وطنهم الثاني.

 

 

المصدر: الوفاق/خاص