في ظل تصاعد الإحتجاجات الشعبية

هل ستشهد باكستان تحولات سياسية واسعة؟

أميركا تسعى من خلال الإنتقاد وإظهار بعض الدعم الضمني للمحتجين إلى الحصول على مزيد من التنازلات من الحكومة الحالية والجيش الباكستاني

2024-10-27

مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة الباكستانية من قبل أنصار عمران خان وحزب تحريك إنصاف، برزت تكهنات حول احتمال حدوث تحولات سياسية واسعة في هذا البلد. وقد خلق نجاح الاحتجاجات في بنغلاديش الأمل بين شعوب المنطقة والدول المجاورة بأنهم أيضاً قد يتمكنون من إحداث تغييرات سياسية من خلال الاحتجاجات العامة. في جنوب آسيا، يشهد وضع الحكومات التي تخضع لسيطرة العسكريين تغيرات وتحولات. ففي باكستان، أدى تصاعد الاحتجاجات العامة من قبل أنصار حزب تحريك إنصاف وتدهور الوضع الأمني بسبب تزايد الأعمال الإرهابية إلى الشعور بإمكانية تغيير الوضع السياسي.

 

العوامل المحركة للاحتجاجات

 

تنتج الاحتجاجات الحالية في باكستان عن تداخل وتركيب عدة متغيرات:

 

المتغير الأول: تدهور الوضع الاقتصادي في باكستان. فمع قطع المساعدات المالية الأمريكية وتراجع المساعدات الخارجية من الدول الأخرى (بريطانيا والدول العربية وأوروبا)، وتدهور إنتاج المحاصيل الزراعية بسبب التغير المناخي (الجفاف والحرارة الشديدة والفيضانات المدمرة)، وعدم القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وعدم التوازن في المالية العامة (بين الميزانية الحكومية وتحصيل الإيرادات مما أدى إلى التضخم)، واجه الاقتصاد الباكستاني مشاكل أساسية. وخاصة أنه من وجهة نظر شريحة من الشعب الباكستاني، يُعد الجيش بتدخلاته وتكاليفه الباهظة أحد العوامل المسببة لتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.

 

المتغير الثاني: استمرار تدخل الجيش في السياسة. يعتقد أنصار تحريك إنصاف وكثيرون غيرهم أن عمران خان تم عزله وسجنه فعلياً من خلال انقلاب صامت من قبل الجيش. فقد عزل الجيش عمران خان دون اعتبار لصندوق الاقتراع وتدخل في العملية السياسية للبلاد.

 

المتغير الثالث: الشعور بتراجع الحريات السياسية والمدنية في باكستان، حيث يُعتبر الجيش وجهاز المخابرات مسؤولين عن ذلك. وفي هذه القضية، لا يقتصر اتهام الجيش على حزب تحريك إنصاف أو الأحزاب والجماعات السياسية المعارضة الأخرى فقط، بل يشمل العديد من الأفراد والتيارات غير السياسية مثل المنظمات المدنية والمنظمات غير الحكومية ونشطاء حقوق الإنسان وحقوق المرأة والصحفيين والنشطاء النقابيين، الذين يعترضون على تزايد القمع من قبل الجيش وجهاز المخابرات الباكستاني.

 

المتغير الرابع: محاولة الجيش والحكومة الحالية تجاهل حالة الاستياء. فقد أثارت إجراءات مثل نسب المظاهرات إلى اللاجئين الأفغان غير الشرعيين في باكستان أو إلى الحركات البلوشية الانفصالية غضب المحتجين. ويلعب الشعور “بالتجاهل” و”عدم الاحتساب” دوراً أساسياً في ديناميكية مثل هذه الحركات الاحتجاجية.

 

المتغير الخامس: العوامل الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية التي شجعت المحتجين. ففي منطقة جنوب آسيا، أدى تزايد ضعف وتراجع الحكومات، خاصة العسكرية منها، إلى تشجيع المحتجين. في بنغلاديش، نجحت المظاهرات الشعبية الواسعة رغم سقوط ألف قتيل و20 ألف جريح وأدت إلى سقوط الحكومة. حيث وقف الجيش إلى جانب الشعب ولم يدعم حكومة “حسينة واجد”. أما في ميانمار، وهي دولة أخرى في جنوب آسيا تشبه باكستان من الناحية التاريخية والسياسية (حكومة نشأت من الاستعمار البريطاني وتخضع لسيطرة العسكريين)، فقد أدت فترة المقاومة الطويلة للجيش ضد صندوق الاقتراع والإرادة العامة إلى حرب أهلية نتج عنها فقدان الجيش السيطرة على جزء كبير من أراضي البلاد واقتراب موعد سقوط الحكومة العسكرية.

 

خلافات مع أميركا

 

يبدو أن الولايات المتحدة تعتقد أن الجيش الباكستاني، من خلال تدخلاته في السياسة الداخلية والخارجية لباكستان على مدى العقدين الماضيين، قد أغرق بلاده في مستنقع الركود الاقتصادي وعدم الاستقرار والإرهاب والسخط الشعبي. وباكستان تمتلك عدداً كبيراً من الأسلحة النووية التي يُعد وقوعها في أيدي الجماعات الإرهابية أمراً مرعباً. ولهذا السبب، أدت مجموعة هذه الانتقادات إلى عدم رؤية الولايات المتحدة لإجراءات الجيش الباكستاني في مصلحتها. ومن هنا نشهد تزايد انتقادات أمريكا لباكستان.

 

وقد أدت هذه الانتقادات الأمريكية المتعلقة بوضع حقوق الإنسان وضرورة الانفتاح السياسي في البلاد وحماية حقوق معارضي الحكومة والجيش، إلى قيام باكستان بدورها بتوجيه انتقادات للولايات المتحدة في قضايا مختلفة. وتشمل هذه الانتقادات مجموعة متنوعة من القضايا، من المعايير المزدوجة الأمريكية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان إلى سلوك أمريكا في فرض عقوبات على الشركات الصينية التي تتعاون مع القطاع الصاروخي الباكستاني.

 

من الواضح أن الولايات المتحدة لا تسعى حالياً إلى إسقاط الحكومة الباكستانية الحالية أو إعادة الجيش الباكستاني إلى ثكناته، لكنها اتخذت موقفاً نقدياً تجاه طريقة الحكم والعلاقات بين الجيش والحكومة في باكستان، أو أنها تسعى من خلال هذه الانتقادات وإظهار بعض الدعم الضمني للمحتجين إلى الحصول على مزيد من التنازلات من الحكومة الحالية والجيش الباكستاني، و هو ما يدركه الجيش و الحكومة لذلك يطلبون من أميركا عدم التدخل في شؤونهم.

 

جيل مختلف

 

وبالإضافة إلى هذه العوامل الهيكلية والظرفية، يجب أن نشير إلى تشكل عوامل بشرية وفاعلة أيضاً. يبدو أن جيلاً جديداً من الشباب النشطاء السياسيين قد تشكل في باكستان، وهم أولاً لم يعودوا يقبلون سلطة الجيش مثل الأجيال السابقة، وثانياً يسعون إلى التغيير السياسي في البلاد. هذا الجيل الجديد، من خلال اللجوء إلى تكتيكات نبذ العنف، ابتعد عن الإسلام المتطرف ويسعى إلى النضال المدني لاستعادة المجال السياسي من الجيش.

 

كان سبب نجاح حزب تحريك إنصاف هو قدرته على طرح خطاب جذاب لقطاع كبير من هذا الجيل الجديد. فعدم مساومة عمران خان وحزب تحريك إنصاف يروق لهؤلاء الشباب. وبما أن تكلفة النشاط المدني وغير العنيف أقل من النضال المسلح، فقد كان الإقبال على هذا النهج والأسلوب ملحوظاً. وقد تأثر الجيل الشاب في باكستان، مثل نظرائهم في دول المنطقة الأخرى، بشكل كبير بالاتصالات العالمية عبر الإنترنت، ولديهم نظرة مختلفة للعلاقات بين الدولة والمجتمع مقارنة بالأجيال السابقة.

 

إن طاعتهم للتقاليد والقوانين غامضة إلى حد ما، وربما لم تكن التنشئة السياسية في حالتهم ناجحة بقدر الأجيال السابقة. كل هذه العوامل زادت وستزيد من الفجوة بين الهيكل السياسي الخاضع لهيمنة الجيش في باكستان وهذا الجيل. هذا الجيل حالياً بعيد عن التطرف، ويرى على الأقل جزءاً من مُثُله السياسية في عمران خان وحزب تحريك إنصاف، بينما يرى في الجيش والحكومة المدعومة من العسكريين عائقاً أمام تحقيق تطلعاته.

 

مقاومة الجيش والحكومة الباكستانية

 

في نجاح الاحتجاجات السياسية الواسعة غير العنيفة، العامل المهم والمؤثر هو عدم المقاومة المسلحة حتى الموت من قبل الجيش والحكومة الحاكمة. فإذا كان عليهم اللجوء إلى العنف الشامل ضد المحتجين، فإما أن تنتهي الحركة المقموعة أو سيدخل البلد في مسار الحرب الأهلية. في بنغلاديش، استخدم الجيش والشرطة العنف الواسع ضد المتظاهرين في المراحل الأولى من الاحتجاجات. قُتل ما يقرب من ألف شخص، لكن الاحتجاجات استمرت، وفي النقطة التي كان من الممكن أن تتحول فيها الاحتجاجات إلى مسلحة، أجبر الجيش “حسينة واجد” على الاستقالة ومغادرة البلاد.

 

يحظى المسار الذي ستتخذه الأحداث في باكستان باهتمام كبير. يرغب حزب تحريك إنصاف في حدوث سيناريو يتجاوز ما حدث في بنغلاديش. بمعنى أن يعود الجيش الباكستاني فعلاً إلى ثكناته، ويتوقف عن التدخل في الاقتصاد والسياسة، ويتم حل كل شيء على أساس صندوق الاقتراع. يبدو أن أعضاء الحزب على اتصال واسع مع الحكومات الأوروبية والأمريكية ويطلبون دعماً واسعاً لهم.

 

في المقابل، يثق الجيش الباكستاني والحكومة في قدرتهم على قمع المحتجين وإرهاقهم. لذلك يمتنعون عن ممارسة العنف الواسع ضدهم. من المثير للاهتمام أنه في بلد مثل باكستان، حيث أصبحت العمليات الإرهابية والاشتباكات مع الجماعات شبه العسكرية عادة يومية، كان تعامل الشرطة والجيش مع المتظاهرين حذراً للغاية ولم يتجاوز استخدام الأسلحة غير القاتلة.

 

من الواضح أن الوضع في باكستان لم يصل بعد إلى درجة الخطورة التي تخرج فيها الأمور عن سيطرة الجيش. علاوة على ذلك، لم يشهد المجتمع الباكستاني بعد حالة من التعبئة العامة والجماهيرية. توجد في المجتمع الباكستاني انقسامات كبيرة تمنع حدوث هذه التعبئة الجماهيرية: الانقسام بين الجيل الجديد والجيل القديم، بين الديمقراطيين الذين هم علمانيون نسبياً والمواطنين المتدينين والمحافظين دينياً، بين مؤيدي التغيير والفئات المحافظة التي تخشى المزيد من التغيير في البلاد، وأخيراً وجود توترات أمنية فعلية تجعل الكثير من الناس يخشون تفكك البلاد أو الوقوع في حرب أهلية، وهذه كلها عوائق أخرى تواجه حركة الاحتجاج في باكستان.

المصدر: الوفاق