الحداثة العربية والشرط التاريخي

أسست الحداثة العربية شرطا بنيويا وضارا في إعاقة الدخول العربي الى التاريخ الحديث، وكانت النتيجة أنه لم تكن للحداثة العربية بعد ذلك عقل تفكر به أو عقل تقرأ به فاستعارت العقل الحداثي الاطلاقي واسدلت الستار على العقل العربي الإسلامي فآثر العقل العربي على أثر ذلك الصمت والى...

2024-10-28

 

لم تكن الحداثة في الغرب بالحركة الفكرية التي تقتصر على جوانبها المعرفية كما تسوقها مصادر الحداثة العربية، بل هي حركة تاريخ كاملة أنجزتها القوى الناهضة في الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي وهو العصر الذي ظلت تطلق عليه مصادر الغرب الثقافية “عصر التنوير”، فمن الدين – المسيحي الى العلم التجريبي والحسي الى الاقتصاد البرجوازي الى الروح العسكرية المغامرة الاسبانية حروبا واكتشافات جغرافية الى الرحلات الاستكشافية التي جابت الشرق ونقبت في تاريخه وآثاره وغرائبه وأهمية التجارة فيه بما يشكله من مخزن أو مصدر للمواد الأولية التي ابتدأت بالبخور والعطور وانتهت بالنفط، هكذا كان تاريخ أوربا – الغرب يتحرك بطاقة نخبوية وشعبية عامة نحو عالم وتاريخ جديد أطلقوا هم عليه التاريخ الحديث وكانت قبل ذلك الحروب الصليبية التي فتحت عيون الغرب على الشرق وسالت له لعاب الأطماع الإمبراطورية والسياسية والتي لم تكف عن تحريك الرغبة في الاستحواذ على الشرق منذ ذلك العصر.

 

لقد كان منطلق الحداثة في الغرب هو الاستجابة التاريخية لهذه التحولات والمتغيرات التي طرأت على العالم في نهاية القرون الوسطى كما يسميها الترسيم الأوربي لمقاطع الزمان في التاريخ العام للبشر، لقد كان الحاضر التاريخي في تلك القرون أو في نهاياتها بشكل أدق يفرض بقوة شروطه على الإنسان الأوربي في التحولات والتغيير ولم يكن مجرد انتهاج لنماذج حاضرة أو تسكن قلب التاريخ الماضي، بل كان تحولا ماهويا وتاريخيا واجتماعيا ومن ثم فكريا فالواقع سابق على الوعي في تلك اللحظة ومؤسس له، ومن هنا لم تكن الحداثة انتصارا معرفيا في مراحلها الأولى بل كان انتصارها المعرفي يتشكل لاحقا في ظل تلك التحولات الكبرى وتعبيرا بنفس الوقت عن استجابة العقل الأوربي الى محفزاته التاريخية، ولعل هناك من يحاجج بالنهضة المعرفية التي سبقت عصر التنوير وإعادة اكتشاف التراث المعرفي الإغريقي وإطلاع أوربا على منجزات الفكر والمعرفة العربية الإسلامية وظهور المخطوطات القديمة إلا أنها تظل تشكل عاملا مساعدا وثانويا في تحريك الذات الأوربية نحو عصر التحديث والتنوير.

 

لقد كان الحداثي الأوربي هو البرجوازي الأول والفنان والمهندس والشاعر والقسيس والعلماني الذي كان يدير أملاك الكنيسة الدنيوية وكان الرحالة والمستكشف بل وحتى القرصان الباحث عن الكنوز والمكان الجديد.

 

لقد كان مجتمع بكامله وتاريخ بكامله يتحرك باتجاه جديد ويصبو الى عالم حديث ولم تكن المعرفة همه الأول وغايته القصوى بقدر ما كان الواقع وتحديات البقاء في هذا الواقع أكثر استجابة لمحفزات البحث عن السعادة التي تنزع إليها دائما الطبيعة الإنسانية وشرطها في الطابع الدنيوي، لكنها مع الحداثة صارت فكرة ونظرية وايدلوجيا تستهدف النظرية الكنسية في إرساء الطبيعة الأخروية للسعادة، لقد ضمنت التحولات العملية والنشاطات السكانية الاقتصادية والعسكرية والفنية نجاح التحولات الحداثية في الغرب، لكن الى أي مدى كانت الحداثة العربية تؤمّن –بالتشديد على حرف الميم- تلك التحولات العملية والشرط التاريخي فيها أم كانت مجرد نقاشات نظرية أو تمهيدات فكرية لتحولات متوقعة تقارب أحلام اليقظة أو مجرد حملات كتابية ناقمة تتشكل في إداءات جلد الذات القاصرة عن اللحاق بالأمم الأخرى وطبعا كلها تدخل في المفهوم العربي القاصر في الحداثة بأنها مجرد انتصارات معرفية.

 

الحداثة العربية وشرط الدخول في التاريخ:

 

لقد ظلت الحداثة العربية تدور في مناقشاتها الفكرية والثقافية في إطار السؤال النهضوي كما تطلق عليه المصادر الحداثية العربية وقد ولد هذا السؤال في القرن التاسع عشر الميلادي وتمت صياغته بشكله الرسمي مع شكيب أرسلان في كتابه “لماذا تأخر المسلمون؟ وتقدم غيرهم؟”، ولازال هذا السؤال ضاغطا على النقاشات والمجادلات الحداثية العربية سواءا بنصه الصريح هذا السؤال أو بمضمونه الفكري والتحليلي، وتكاد تجمع كل تلك المجادلات على إجابة محددة ومكررة في مصادر وأدبيات الحداثة العربية منذ القرن التاسع عشر الميلادي والى يومنا هذا وتتلخص تلك الاجابة أن العائق أمام الحداثة أو سبب تأخرنا هو الاستبداد السياسي والاجتماعي وأخطره كما يقول الكواكبي الديني ثم السبب الآخر يكمن في تراجع العقل العربي والإسلامي عن مسارات التطور العلمي والمعرفي، وهنا تمزج الحداثة العربية المبكرة والمتأخرة بقوة بين العقل العربي والعقل الإسلامي فأحدهما يعبر عن الآخر في تنظيرات تلك الحداثة وهو خطأ جوهري وأساسي في النقد الحداثي لهذا العقل لكنه خطأ دأبت عليه وصار أحد مسلمات الحداثة العربية غير الخاضعة الى المراجعة.

 

لقد ظل كتاب عبد الرحمن الكواكبي تـ 1902م ” طبائع الاستبداد ” منارا فكريا وملاذا معرفيا في الحداثة العربية من المبكرة الى المتأخرة ولم تنتقل بعده تلك الحداثة الى خطوة أخرى في مجادلات أسباب التخلف وعوامل التدهور حتى جاءت الكتابات الحداثية في الثلث الأخير من القرن العشرين وأضافت الى تلك الأسباب والعوامل مأزق العقل العربي–التراثي ومن خلال تلك الملاحظة التي شغلت حيزا كبيرا من الدراسات والبحوث في مصادر الحداثة العربية المتأخرة واتسعت وتطورت أساليب وأفكار نقد العقل العربي وتضخمت فيها الدلالات على المأزق المعرفي والقصور الفكري الذي يعاني منه هذا العقل مما أكسبه بعدا مفارقا للحداثة منذ البداية ومهد الى اقتلاع جذوره من فضاءات التنوير.

 

لقد كانت هناك إمكانية تحريك هذا العقل وإعادة المبادرة إليه في الدخول الى التاريخ الحديث مع مقترحات وأفكار الحداثة العربية المبكرة والتي عبرت عنها أجيال الاصلاحيين الأوائل كما درجت المصادر الحداثية العربية على تسميتهم أو توصيفهم بالنهضويين كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأرسلان، فقد كان العقل العربي لا سيما في صيغته الإسلامية الأولى يحظى بالقبول والثقة عند أولئك القادة الفكريين مع محاولة تجاوز كل مقيدات الجمود والتراجع فيه التي لحقته وتراكمت عليه بفعل سياسات الاستبداد وأهواء السياسات، وكان يشجعهم على التمسك بإمكانية نجاح هذا العقل بإزاء التحديات التي واجهته في ظل انتصارات الحداثة الأوربية هو التجربة التاريخية والحضارية التي أنجزها هذا العقل في بناء الحضارة الإسلامية على مساحات شاسعة في آسيا وأفريقيا الى حدود قارة أوربا.

 

لكنه مع المصادر الحداثية العربية المتأخرة وطعونات النقد الابستمولوجي والتحليلي فقد بدا هذا العقل غير قابل للحراك وفاقد الأهلية في استعادة المبادرة الحضارية والتقدمية وأن طبيعته في الفهم التراثي ووظيفته في هذا التراث جعلت منه عقلا نقليا روائيا حرفيا اتباعيا جامدا عاجزا عن دخول التاريخ، ورغم أن هذا العقل كان يشكل جزءا أحاديا في تشكيلات العقل الإسلامي العام إلا انه صار الممثل الرسمي والمعبر عن العقل الإسلامي بصيغته العامة، وأٌدخل في منظور الحداثة العربية في نطاقاته العقل الكلامي والأصولي – الفقهي والفقهي – الاستدلالي والأدبي الابداعي وغض النظر الحداثي عن كل انجازاته في العلوم الطبيعية والمادي.

 

لقد عكس العقل الحداثي العربي صورة عن العقل التراثي العربي جعلته وإياه في ثنائية التضادات والتناقضات والجأته الى التحكيم بإزاء المعايير الزمانية التي تستند الى تقاطعات الماضي والحاضر وتجد حكمها في القطيعة مع الماضي في القضاء الحداثي وهو قضاء معرفي يستند الى التجربة الحداثية الأوربية في الغرب، وبهذا كانت تلك القطيعة تشكل كبرى من كبريات الهم والموضوع الحداثي العربي، وفي فضاءات ذلك النقد وابتزازته أحيانا سلط الضوء على أصول هذا العقل التاريخية والاجتماعية والأدبية، وهنا بدا هذا العقل بلا تاريخ حضاري قديم بل وبلا أصل تاريخي عربي أو إسلامي يتحدر عنه فهو عرفان شرقي غنوصي قديم وبمشاركة افلوطينية وهو أيضا برهان إغريقي أرسطوي جامد عند حدود القياس المنطقي الذي يعيد توليد ذات النتائج، وفي أحسن أحواله فهو بيان عربي يقف عند حدود العلاقة بين اللفظ والمعنى، وهو ما يذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري وقد نتج عن ذلك لا سيما مع المقطع الأخير في البيان أن حضارته كانت مجرد حضارة نص لغوي مع الدكتور نصر حامد أبو زيد، لكن المشكلة الأكثر قتامة في هذا التصنيف والتقييم الحداثي أن لغة هذا النص جماع ألفاظ وكلمات من لغات شتى كانت تزخر بالأصالة والتطور وفق أدبيات الفكر الغربي الاستشراقي والذي مس هذا الحكم الاستشراقي ومن ثم الحداثي العربي طبيعة هذا النص الذي تأسست وفق تاريخه وقواعده الحضارة الإسلامية وقبل ذلك صياغته أي هذا النص للعقل العربي الإسلامي، فهو أخيرا وفق أدبيات الاستشراق وعلى استحياء أدبيات الحداثة العربية استعارة دينية وروحية من أديان سابقة وأمم ماضية وهكذا انحط هذا العقل أخيرا في المصادر الحداثية العربية الى أصول طارئة على البيئة العربية وغير ملتحمة بالواقع الذي يشكل بيئة هذا العقل.

 

وهكذا تمدد المأزق المعرفي الذي رسخته الحداثة العربية وكتبت فيه واكتفت بحدود ذلك التحليل ولم تغادره الى فضاءات أرحب في الدراسة والتحليل وقد وصلت على أثر ذلك الى نفي الأصول في ذلك العقل في تلك البيئة واقتلاع الجذور فيه التي يجب أن تنمو في تلك البيئة العربية الإسلامية وبذلك أسست الحداثة العربية شرطا بنيويا وضارا في إعاقة الدخول العربي الى التاريخ الحديث، وكانت النتيجة أنه لم تكن للحداثة العربية بعد ذلك عقل تفكر به أو عقل تقرأ به فاستعارت العقل الحداثي الاطلاقي واسدلت الستار على العقل العربي الإسلامي فآثر العقل العربي على أثر ذلك الصمت والى الأبد ولم يكن له حديث في الحداثة والتنوير.

 

وقد أدى انكار أصول العقل العربي وتعليقه على المصادر والمؤثرات الأجنبية وبتر العلاقة بينه وبين صياغات الإسلام له وتأثير المعاني الروحية العظيمة التي صاغها الوحي الى اثنين من النتائج أولهما تكريس العلاقة بين هذا العقل وبين صيغة إسلامية أحادية الاتجاه في الأصول النقلية والحديثية وتقديمه بهذا الشكل والمضمون الذي ألحت واقتصرت عليه المصادر الحداثية العربية، فهو عقل نقلي روائي حديثي اتباعي يخشى البدعة وكل ابداع بدعة وكل بدعة ضلال وكل ضلال في النار، وثانيهما هو انكار أو محاولة بتر الهوية الرابطة مع الإسلام بعد إن تم تحويل العقل الإسلامي الى خواء في الأصول والآثار وعجز هكذا عقل متزلزل الأصول أن ينتج هوية أصيلة تستقطب المجتمعات والقوميات والمذاهب المتعددة، فكانت القطرية والوطنية والقومية المحلية وهي أفكار ومصطلحات تشكل عقد التماس مع الحداثة العربية وهي في نظرها بديل الانتماءات التقليدية الى عالم الإسلام الذي اخترقته الحدود القطرية واختزلت خارطته الجغرافية قبل مئة عام على أثر تجزئة الدولة العثمانية وكان انتمائه الهوياتي التقليدي هذا يرافقه في كل تاريخه الحضاري والثقافي والاجتماعي الذي امتد أكثر من ألف عام.

 

لقد نجحت الحداثة الغربية في القطيعة مع التراث الديني المسيحي لكنها لم تكرس القطيعة مع الهوية القومية الأوربية بشقيها الإغريقي والروماني بل لم تكرس القطيعة مع الأصول اليهودية – المسيحية في الحضارة الأوربية الحديثة لأن القطيعة مع الهوية هو تسليم المجتمعات الى المجهول والى القدر الغامض، وقد صنعت تجليات خاصة بها في انتماءاتها القومية ولم تفرط بتركيبتها التاريخية والاجتماعية والثقافية فصنعت اتحاداتها الخاصة بأوربا وقد شملت وشغلت تلك الاتحادات المهام والوظائف الاقتصادية والمواقف السياسية الموحدة والخطط والأهداف العسكرية وتكاد ان يكون لها جيشا موحدا يستعيد الروح والعقلية الرومانية العسكرية، وقد سوقت القطيعة مع الأصول في المصادر الحداثية العربية كضرورة قصوى في الحداثة الغربية لكن هذه الحداثة عمليا كانت ترمم كل اختلالات العلاقة بين أوربا الحديثة وأوربا القديمة على المستوى الهوياتي والانتماءات التاريخية والثقافية والاجتماعية، وكرست انهمامها الامبراطوري القديم بالصدام الحضاري مع الشرق ولازال انهمامها هذا يوجه بوصلة السياسات الأوربية في هذا الجزء من العالم، وقد سهل لها ذلك هو نجاح التأثير الحداثي الأوربي الغربي في اجتثاث الأصول والانتماءات في بعض أجزاء الشرق وإلحاق أممها وشعوبها ودولها بالفلك السياسي والاقتصادي الأوربي، وتمكنت من المحو الهوياتي في حضاراتها وثقافاتها وشعوبها، ولكنها عجزت مع الحضارات الكبرى والثقافات الأصيلة وذات الحضور الهوياتي المكثف والدائم لا سيما الصين وروسيا وأجزاء كبرى من العالم الإسلامي، باستثناء تيارات في عالمنا العربي التي شكلت الحداثة الأوربية مصادرها ومواردها الثقافية والايدلوجية.

 

وأخيراً وقعت في مأزق المصير المجهول والقدر الغامض الذي انخرطت فيه دون مراعاة حسابتها المبكرة في توجيه الحداثة نحو الخصوصية الإسلامية والمحلية العربية، وانخزال الحداثة لديها في السياقات المعرفية حصرا وقصرا دون عمل جماعي تمارسه الفئات الحداثية في الانخراط في حركة التاريخ الحديث والمعاصر وولوجه من خلال بواباته الكبرى السياسية والاقتصادية وتجاوز مراحل النقد والسرد التحليلي في التراث الذي انهمكت أو كادت أن تقتصر عليه الحداثة العربية الى التنظيرات العملية واقتراح البرامج والخطط في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران، فضلا عن البرامج والخطط في التربية والتعليم التي تناط مسؤوليتها كاملة بالدولة العربية الحديثة والقوى الناهضة والمؤهلة في المجتمع وهي فئات البرجوازيين والاقتصاديين والعلماء المختصين في العلوم الطبيعية والتطبيقية والعاملين الأخرين في مجالات البناء المادي والثقافي.

 

وإذا كانت تلك المهام المناطة بالدولة العربية والقوى الفاعلة فيها تشكل الشرط التاريخي والاجتماعي الذاتي في البنية الداخلية للمجتمعات العربية التي تحاول الانخراط في الحداثة أو في التاريخ الحديث فإن الشرط التاريخي والاجتماعي الموضوعي هو إزاحة العقبة التاريخية والحائلة دون دخول التاريخ الحديث وهي الكيان الغاصب في فلسطين والمتذرع باسم إسرائيل، فقد استقطب هذا الكيان الزائف الاهتمامات الكلية للعرب دولا وشعوبا وأنظمة حكم ومنذ تشكيله والذي رافقت أوليات التشكيل فيه مسارات الدولة العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أشغل هذا الكيان الطارئ تلك الدولة المبكرة في التاريخ العربي الحديث وأشغل شعوبها ونخبها وأنظمة الحكم والقوى الفاعلة والمؤثرة فيها عن إتمام مسارات بناء هذه الدولة المبكرة والتي تشكل الشرط الأساس في دخول الحداثة أو في دخول التاريخ الحديث كأحد أهم محركاته وعناصر الفعل فيه، فالدولة الحديثة يجب أن يكون وجودها وحضورها فاعلا ومؤثرا في صنع الحديث والسياسات في العالم الحديث وهو ما نشاهده في أدائيات ونشاطات تلك الدول التي بلغت أوج التقدم والتطور الحداثي لا سيما الدول التي ترسم سياسات الإدارة والاقتصاد في العالم.

 

لقد انصرفت الدولة العربية الحديثة وكل عناصرها المكونة لها ومنذ العقد الخامس من القرن العشرين الميلادي باتجاه المواجهة مع كيان إسرائيل وكانت تلك المواجهة تشغل كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وصولا الى المجالات الثقافية والتربوية مما أعاقها عن تطوير وإنتاج الحداثة كشرط أولي في دخول التاريخ، وتشكل هذه المجالات اهتمامات ووظائف الدولة الحديثة ولكنها مع الدولة العربية الحديثة وتحت ضغط المواجهة ضد هذا الكيان الغاصب شغلت تلك المجالات مهام التعبئة وعلى مدى أكثر من نصف قرن من تاريخها الحديث وقد استنزفت فيه الكثير من الطاقات العربية التي كان يفترض فيها أن تتوفر في مهام البناء الوطني والنهوض الحضاري.

 

وحتى بعد أن لجأت الدولة العربية الى عقد اتفاقات يطلق عليها اتفاقات سلام وحظيت فيها إسرائيل بالاعتراف العربي وتنازلت فيها الدولة العربية وبصيغة غير شرعية عن الحقوق العربية لم تكن تلك العقبة البنيوية والتاريخية والمتذرعة باسم إسرائيل أن تتخلى عن سياساتها وأطماعها وخرافاتها التوراتية واستمرت بتدوير آليات الصراع مع العرب واستهداف الدولة العربية في حجرها ومنعها عن اللحاق بركب العالم الحديث عن طريق أو بواسطة إشغال آليات هذا الصراع باستمرار بابتكار المشاكل وصناعة الأزمات التي امتهنتها حكومات وقادة الرأي والسياسة في هذا الكيان الغاصب لا سيما في ما تسعى إليه دائما إسرائيل في تعطيل القرارات الأممية والحلول التفاوضية والسلمية ومنع إقامة الدولتين وفق الحل الدولي.

 

وفي عودة الى تحليل الأحداث العربية التي رافقت تأسيس ونشأة هذا الكيان الغاصب نجد أن الدولة العربية قد تعطلت عن الإداءات والانجازات التي سعت إليها وأسهمت في بناءات الدولة الحديثة لا سيما في ظل أنظمة ديمقراطية وملكيات دستورية وكان تعطيلها قد بدأ بعد قيام إسرائيل في العام 1948م فقد شهد عقد الخمسينات من القرن العشرين في الدول العربية وبعد سنتين من قيام إسرائيل سلسلة انقلابات عسكرية وصعود جنرالات الجيش الى السلطة والحكم وتأسيس الأنظمة الدكتاتورية والسياسات القمعية التي قوضت وأسهمت في تخريب كل البناءات والانجازات نحو دخول الحداثة وتمثل عائقها الأساسي في فرض آيدلوجيات محددة على الشعوب العربية وتكريس عبادة الزعيم وقمع الحريات لا سيما الدينية والشخصية والسياسية والاقتصادية.

 

ورغم أن مؤسسات الدولة العربية الإدارية والتجارية والتعليمية والتربوية والثقافية ظلت قائمة في دول الانقلابات العسكرية لكنها تعرضت الى الاستنزاف والتدمير الداخلي على يد مؤسسة الحزب والسلطة وقد اتخذت تلك المؤسسة شعارات المواجهة الزائفة مع إسرائيل مبررا ومسوغا في كل سياسات القمع والتدمير تلك.

 

ومن هنا تضافرت العوامل الداخلية في الدول والمجتمعات العربية والعوامل الخارجية في وجود إسرائيل في إعاقة ومنع الدولة العربية والشعوب العربية من دخول الحداثة والحجر دونها في واقع وأوضاع تستفز وتستحضر كل وقائع وتقاليد وأفكار ما قبل الحداثة.

 

حكمت السيد صاحب البخاتي

المصدر: شبكة النبأ