الكاتبة اللبنانية نجوى الموسوي
يقال إنه حين تشتعل الحرب في أي بلد يخفت وهج الوسط الثقافي. إذ يلاحظ أن الأنشطة والفعاليات والإصدارات التي تتعاطى الشأن الفكري الإنساني تؤجّل تلقائياً.
ففي الحرب تعلو أصوات المدافع والغارات وتتقدم حوادث الموت والجراح والدمار، فلا يترك ذلك مجالاً إلا لأعمال الدفاع وإنقاذ الأرواح ونزوح العائلات نحو مناطق آمنة. ولكن، هل يظل للثقافة حينها صوتٌ يتكلم برغم المعارك العسكرية حقًا؟ وكيف يُلاحظ هذا الأمر؟
الثقافة عقيدة وأخلاق
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أساس الثقافة المقصودة هنا (في المقال) ومعانيها؛ إذ تتعدّد تعريفاتها التي تشرح أوجهها وتبيّن أحيانًا الساحات التي تشملها، فمن تعريفات الثقافة بحسب فكر الإمام الخميني (قدس)، أنها: “عبارة عن العقيدة وانطباع كلّ إنسان عن واقعيّات وحقائق العالم والوجود وكذلك (هي) الأخلاق الفرديّة والأخلاق الاجتماعيّة”.
ولما كانت الثقافة ناشئة من عقيدة ومترجمة في واقعيات فإن لها خصائص لا بأس بذكرها منها: أنها سلوك مكتسب ومنها أيضاً التميز والاستقلال والتراكم والإنتقــال والتـركيـب والتوافق والتكيف والذيوع والانتشار والثبات والتغير والتكامل والاستمرار. وهذه الخصائص كلها لا بد أن تجد مسارات لها في الحياة العملية وفي عدة ظروف.
وهذا يشير إلى ما يراه المفكر “الفريد فيبر” إذ يعتقد أن الثقـافة “تدخل جميـع مخططـات الحيـاة التـي تتكـون علـى مـدى التـاريخ بمـا في ذلك المخططات الضمنيـة والصـريحة والعقليـة واللاعقليـة وهـي توجـد في أي وقـت كمـوجات لسلوك النـاس عند الحـاجة”.
الثقافة وبناء شخصية الفرد في المجتمع
ولأن الإنسان كيانٌ ذو أبعاد متعددة في جوانب أربعة كبرى هي: عقلية وجسمية واجتماعية وروحية، فإنه محتاج إلى عقيدة وأخلاق فردية واجتماعية تنمو مع نمو هذه الأبعاد فيه.وحين تتطوّر الأبعاد والعقيدة وتكبر، فإن الثقافة تشكل جزءاً من حركتها ونضوجها.. وتدخل في إطار بناء قدرات والقوى الفكرية والروحية وغيرها، فالإنسان بحسب الإمام الخميني (قدس): “يحتاج لأجل الحياة في هذا العالم إلى بعض القدرات الخاصة.. حيث يجب عليه الاستعانة بقوى العقل وهداية الأنبياء الدينية”.
مما تقدّم، يُستنتج أن الثقافة تعدّ مرجعيةً للإنسان في مجالات فهمه للأمور والحياة وفلسفاتها، وتظهر في سلوكه وفي تصرفاته أيضًا.. ثم تشكل حالات من الوعي والتراث لاحقاً.
إذًا، فلكل بيئة أو مجتمع أو حضارة مكوّنات ثقافية تبدو بمثابة “حياة الإنسان الروحيّة، من العلوم والفنون والفلسفة والتشريع والأدب والفنّ” كما يقول الإمام المفكر السيد موسى الصدر.
الثقافة في الحرب حاجة وليست ترفاً فكرياً
وثمة من يرى أن الإبداع الثقافي وجمالياته تتراجع أثناء الحرب حيث لا مجال حينها لما يسمونه بالترف الفكري. إنهم بهذه الرؤية يعدون الثقافة نوعاً من الترف والرفاهية وليست في أساسيات شخصيات الإنسان والمجتمعات.
لكن فئة أخرى تجد أن الحرب هي المجال الأرحب والأهم لظهور آثار الثقافة إذا كانت الثقافه فعلاً ناتجاً عن فكر وعقيدة راسخة في أفراد المجتمع الإنساني وعناصره على اختلاف شرائحهم. ومن هنا تجد في الوسط الأدبي تلك النتاجات القصصية والشعرية والفكرية والمجتمعية التي تحفل بمشاهد الحرب والعبر منها.
وبرغم اختلاف وجهات النظر إلا أن واقعًا يفرض نفسه، وهو يفيد بأن الثقافة لها محل من الظهور حتى في الحروب والظروف الكبرى والمنعطفات والأحداث الاستثنائية، وذلك لما تمثله من طاقات فكرية وروحية.
تلك الطاقات نجد لها مصاديق في المجتمعات كما تقدم في الكثير من التعريفات الفلسفية التي لا يُختلف فيها ومنها تعريف ابن خلدون الذي يعبر عن الثقافة بأنها: “آداب الناس في أحوالهم في المعاش كالعمران والصنائع والفنون والدراية في مجالات الحياة اليومية، في حين تتشكل آداب الناس بالتعليم والاكتساب وإعمال الفكر”.
وفق هذه المفاهيم يبدو من الطبيعي أن تظهر تجليات الثقافة في الأبعاد الإنسانية الأربعة المذكورة آنفاً لكل فرد، وفي آثار تربيتها في الأفراد على المجتمعات التي يعيشون فيها وخصوصا في الظروف الاستثنائيّة بشكلٍ حتمي.
وهذه المكونات الثقافية الفكرية والروحية خصوصاً لها صورها التي تبرز عبر السلوك ومن أشكالها: ثقافة النصر والتضحيات والصبر والحياة.
صور المكونات الثقافية الفكرية والروحية
وفي مجال ثقافة الحياة تتنوّع العناوين كثيرًا، ومنها على سبيل المثال: حب الحياة وصناعة الحياة الكريمة، وتزيين الحياة بالعطاء الشريف، والتطوّع للخدمة لأجل صالح الحياة، وبناء الطفل كركيزة لمستقبل الحياة.
ثم إن هذه العناوين لا تتراءى في الحرب بطريقة تلقينية أو دورات تعريفية أو بمنهاج من دروس وكتب في المدارس، بل تدفع الحربُ بالمخزون الثقافي للظهور فورًا ومباشرة، ما يدل على وجوده السابق بعمق وثبات، ويدل أيضًا على استجابة هذا المخزون لصاحبه حين استدعائه وقت الحاجة ، ذلك الوقت تتفتح فيه الأبواب لظهور القدرات والثقافات وطرقها المختلفة الملوّنة.
نماذج ثقافة الحياة في بيئة المقاومة
ولو ركزنا النظر في مثال بيئة المقاومة المدافِعة في لبنان في وجه عدوان الاحتلال الصهيوني المتكرر، لوجدنا كيف تتجلى ثقافة الحياة هذه من ناحية:
في عدة مشاهد، ومنها:
مشاهد أطفال النازحين الذين يقيم لهم المتطوعون والمبادرون أنشطةَ تفريغ، ويعرفونهم بالقيم والمفاهيم كالحق والجمال والتحمل وتحويل التهديد إلى فرصة وذلك من خلال ممارسة الألعاب والهوايات المفرحة.
فهذا مثال يعبر عن ثقافة العمل والحيوية وضخ الحياة، كما يعبر عن مدى رغبة القائمين بهذه الأنشطة في تفعيل الطاقة الإيجابية.
مشاهد صناعة الفن الجميل كالرسم والكتابة والنحت والمهارات اليدوية حتى في أماكن النزوح ومراكز الإيواء. وهذا يدل على الدافعية الإيجابية نحو حياة مؤنسة تحرك العواطف الجميلة والنبيلة من الإنسان تجاه أخيه الإنسان.
مشاهد الزواج وعقد القران بين شاب وشابة حتى في داخل المستشفيات.. ما يدلّ على تحدي الموت من جهة ويدل من جهة ثانية برغم الدمار والقتل والجراح على قرارات مصيرية في بناء بيوت جديدة وأسر جديدة تقدم المستقبل المشرق على الاستسلام للماضي المؤسف.
مشاهد طلب العلم وممارسة الدراسة الأكاديمية لطلاب لبنان وفق نظام تعليمي خاص يراعي ظروف الحرب، فعلى الرغم من الملاحظات السلبية حول هذه القضية إلا أن طلب العلم من قبل مئات الآلاف من الأجيال إنما يدل على ثقافة حب الحياة واستمرارها.
وبعد، يصبح واضحًا وجودُ الفعل الثقافي بقوة في الحروب وإن تراجعت نسبة النظريات والكلام الثقافي لصالح العمل والتطبيق.
فالثقافة (بهذا المعنى) تنبثق بمثابة مكوّن أساس، ساهم قبل الحرب ويساهم في الحرب وبعدها في ظهور قابليات الإنسان المثقف وقدراته وشخصيّته الناشئة على حب الحياة العزيزة.
وما مشاهد الحياة والعلم والتكيّف وحبّ الإفراح ومبادرات الإسعاد والإنقاذ وتقديم العون للمريض والجريح نفسيّا وجسميا وغيرها الكثير إلا دليلٌ على امتداد ثقافة الحياة والمقاومة لأجل سيادتها.
وبعد، أفلا تتطلب ثقافة الحياة العزيزة الكريمة مخططات فكرية وأدبية وفنية تليق بمستوى الناهضين بها في المستقبل الزاهر بالنصر؟