في آخر زيارة لي إلى تركيا الصيف الماضي، كان لسان حال الشباب الذين التقيتهم هو السخط على الطريقة التي تدار بها البلاد والجدال الذي لا ينتهي عن العلمانية والدين، وكان الأكثر خطورة هو حالة اليأس التي يشعرون بها جراء الأزمة الاقتصادية والغلاء وانخفاض القدرة الشرائية. أما طموحهم، فأصبح يحاكي طموح شباب بعض الدول العربية، ويتمثل بالهجرة ومغادرة البلاد إلى غير رجعة.
لا شكّ في أن السلطة، كما المعارضة، على علم بهذا الواقع. لن نتحدث عن السلطة التي تحاول منذ عام تقريباً إظهار بعض إنجازاتها على جرعات قد تتواصل إلى حين موعد الانتخابات، لعلّها “تُقرّش” كأصوات مؤيدة لها في صناديق الاقتراع، لكننا سنتحدث عن المعارضة، وتحديداً “طاولة الستة” التي يُعول أنصار الأحزاب المنضوية فيها على أن تُحدث تغييراً في الانتخابات المقبلة في شهر أيار/مايو المقبل، فهل تكتفي هذه المعارضة بتوصيف الواقع؟ وهل هذا ما يحتاجه المواطن التركي الذي فقد الثقة بكيفية إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، وحتى قضائياً؟
بعيداً عن الخلافات التي تظهر على السطح بين الفينة والأخرى بين أقطاب “طاولة الستة”، أصبح ملحاً تقديم الإجابة عن تساؤلات حول بعض الشؤون، من قبيل البرنامج الذي تريد المعارضة السير به فور وصولها إلى السلطة.
لا شكّ في أن هذه النقطة تقع في صلب اهتمام الناخب الذي لا يمكن إبقاؤه في جو من الغموض السياسي، كما لا يمكن إبقاؤه من دون مرشح للمعارضة لمنصب الرئاسة يكون موضع إجماع ويعلن عن نفسه بشكل واضح.
يجب إدراك حقيقة أنَّ مرحلة التحضير للانتخابات انتهت وحان وقت “المناظرات”، إن صح التعبير. هذه المناظرات لا بدَّ من تضمينها خارطة طريق لخمس سنوات ببنود إصلاحية تبدأ بالسياسة، وتمر بالاقتصاد، وقد لا تنتهي بالقضاء، فخصم المعارضة لا يزال الأكثر قوة في الساحة السياسية، ليس لأنه يمسك بزمام السلطة فحسب، بل لأنه يدرك ماذا يريد أيضاً، وطريقه إلى مراده واضح، وهو يكشف عن محطاتها الواحدة تلو الأخرى.
لا تتوقف التصريحات الجدلية عند هذا الحد، بل يذهب قطب آخر من المعارضة، وهو رئيس حزب “الديمقراطية والتقدم” علي باباجان، إلى ما من شأنه أن يعقّد الأمور أكثر فأكثر. يريد باباجان أن تُتخذ القرارات بالإجماع تماماً كما يتخذ الناتو والاتحاد الأوروبي قراراتهما. وفي ذلك بذرة جمود سياسي قد تفضي إلى حل البرلمان والركون إلى انتخابات مبكرة، وبالتالي أرجحية انتقال تركيا إلى عدم الاستقرار، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات قد تمس حياة المواطن التركي اليومية.
ومع ذلك، لا بدَّ من أن نعطي الرجل حقه لناحية جرأته في مقاربة القضية الكردية؛ فخلال زيارته الأخيرة لمدينة ديار بكر، قال بوضوح “إن حزبه سيسعى لحل القضية الكردية بنحو عادل داخل تركيا، فالدولة يجب ألا تميز بين مواطنيها”، وشدَّد من جديد على انتقاده المادتين 42 و66 من الدستور التركي، اللتين تنصان على أن جميع المواطنين الذين يقيمون في الأراضي التركية أتراك، وأن التعليم يجب أن يكون باللغة التركية وحدها.
ولكن أيضاً في كلام الرجل، رغم وضوحه، ما يدلّل على أن رأي حزبه قد لا يتوافق مع آراء الأحزاب الأخرى على “طاولة الستة”، وعلى الأرجح هذا هو الحال. لو كان الأمر خلاف ذلك، لكنا قد رأينا تحالفاً يضم الكرد أو على الأقل مواقف ترد على مواقف السلطة التي لا تتحدث إلا عن حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، والتي تجنح إلى حظر حزب الشعوب الديمقراطي بدعوى “الإرهاب”.
يقول وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إنَّ الفوز سيكون من نصيب الرئيس رجب طيب إردوغان، وإن جميع قادة العالم سيتصلون به ليلة الانتخابات ليقولوا له: “نصراً سعيداً”. يبدو أنَّ الواقع يتجه إلى سيناريو كهذا، في حال أصرّ أقطاب “طاولة الستة” على تشتتهم واجتماعاتهم المطولة التي لا تسمن ولا تغني المواطن التركي بشيء.