جنوب لبنان يُبدد خيال “إسرائيل” الاستيطاني.. هكذا بدأت القصة

ينما تستعيد المقاومة عافيتها، وتتوحد صفوفها فيما تتزايد ضرباتها في عمق الكينونة العسكرية والسياسية والاجتماعية والجغرافية الإسرائيلية، تتراجع أولوية أحلام اليقظة من "الاستيطان في لبنان"، إلى الغرق في وحل الخيام والجنوب اللبناني.

2024-11-05

في عام 2000 وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، رصدت نشرة دولية أصدرتها وزارة الإعلام اللبناني، 17 قرية و13 مزرعة لبنانية ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي يطالب لبنان باسترجاعها، بعدما حولها الاستيطان إلى مستعمرات صهيونية، لتمثل “خط الدفاع على الحدود الشمالية”.

 

تضم المناطق كُلًا من المطلة، النخيلة، الصالحية، الناعمة، الخالصة، الزوية، المنصورة، الذوق الفوقاني، الذوق التحتاني، خان الدوير، الدوارة، الخصاص، العباسي، دفنة، اللزازة، هونين، ابل القمح، شوكة، اقرت، حانوتة، معسولة، المالكية، الدحيرجة، الجردية، كفر برعم، طربيخا، صروح، النبي روبين، قدس وصلحا، وتُقدر مساحتها بـ23 ألف دونم من الأراضي الزراعية الخصبة، كانت ضمن أملاك أهالي جبل عامل ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن الماضي.

 

لا تتوقف مسننات الاستيطان المدفوع نحو الجنوب اللبناني وعمقه إلى هذا الحد، بل يُضاف لها 11 مزرعة كان الاحتلال الإسرائيلي قد احتلها خلال حرب حزيران/يونيو 1967، وهي مزرعة معز وتشمل مزرعة تشكو، برتعيا، حكة عزالة، مزرعة بدين، الربعة، بيت البراق، يرختا، كفر دوره، العقاسب، ورمثا.

 

ووفقًا لوزير الإعلام اللبناني الأسبق غازي العريضي، فإن السياسة الإسرائيلية تجاه الحدود اللبنانية اتخذت شكل “القضم والهضم”، وبآلياتٍ متعددة قد تكون شراء الأراضي كما فعل روتشيلد في سهل الخيام والمطلة والمنارة، أو الاستيلاء على الأراضي بحجة الوصول إلى المياه، أو بحجة الموقف الاستراتيجي، مثل الأراضي التي ضمتها في منطقة العديسة لإشرافها على مستعمرة “كريات شمونة” التي أُنشئت على أرض الخالصة اللبنانية.

 

وبحربٍ وبدون حرب تواصل التسلل الإسرائيلي والاقتطاع من جنوب لبنان، حينًا بهدف استكمال خطٍ مستقيمٍ لحدودها، وحينًا لتأمين حماية استراتيجية للمستوطنات التي أقامتها على الأراضي اللبنانية، وحينًا بسبب نقصٍ في مواردها المائية تحاول سده من مياه الليطاني أو الأولي.

 

والكثير من الحجج والمسوغات التي ما زالت تتكرر منذ نهاية القرن الماضي مرورًا بالحروب العربية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان، وانسحابه غير المكتمل عام 2000، وحربه المتجددة عام 2006، وأخيرًا حربه الحالية، التي رفع فيها شعار “لحماية المستوطنات الشمالية يجب إطلاق الاستيطان في لبنان”، وأمام شهية الابتلاع والاستيطان المفتوحة على آخرها والخرائط التي يهوى اليمين الإسرائيلي المتطرف عرضها لـ “”إسرائيل” الكبرى” يغدو لبنان بأكمله قابلًا للقضم.

 

“أوري تزافون” تُطلق خيالها الاستيطاني في لبنان

 

مع ارتفاع حدة القتال على الجبهة الشمالية، سارعت حركات استيطانية منتصف حزيران/يونيو الماضي لتنظيم مؤتمر استيطاني حمل عنوان “مؤتمر لبنان الأول”، ليمثل النشاط الأول لمنظمة “أوري تزافون” وهي اقتباسٌ توراتي تعني “استيقظ أيها الشمال”، وتضع المنظمة على سُلم أجندتها احتلال الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وإقامة مستوطنات فيه.

 

وشارك في المؤتمر شقيق زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث تضمن المؤتمر عرضًا لعددٍ من نماذج الاستيطان الأولية، ومواضيع حول العلاقة اليهودية التاريخية بلبنان، والسياق الجيوسياسي للبنان، واستراتيجية “إسرائيل” على حدودها الشمالية، واستخلاصًا للعبر من الحروب الإسرائيلية مع جنوب لبنان.

 

حيث أكد القائمون عليه أن الهدف ليس الاحتلال فقط وإنما الاستيطان، وهو ما يتوافق مع تصريحات لعضو الكنيست الاسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، قال فيها: إن “كل شيء بين (نهر) الليطاني و”إسرائيل” يجب أن يكون تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي”.

 

المنظمة التي أُنشأت مطلع آذار/مارس 2024، ويقودها البروفيسور عاموس عزاريا، وصل عدد أفرادها مطلع تشرين الأول/أكتوبر لأكثر من 3000 مستوطن يدعمون توجهها باعتبار الاستيطان في جنوب لبنان “ضروري لأمن “إسرائيل”” وأن “الوجود المدني الإسرائيلي وحده هو الذي يضمن سيطرة مستقرة ويمنع المنطقة من أن تصبح معقلاً للإرهابيين”.

 

وانتهجت في عملها أساليب متناغمة تضمن الوصول إلى مختلف طبقات المجتمع الإسرائيلي ومستوطنيه، حيث حرصت على تضمين أنشطتها وخططها الكثير من التفاصيل والبيانات التاريخية والسياسية، بما يدعم مخيلاتها في تحويل الاستيطان في لبنان إلى واقعٍ اجتماعي ونفسي قبل أن يغدو واقعًا على الأرض.

 

تؤسس لذلك من خلال أدواتٍ مختلفة بدءًا من الخرائط التي تقوم بنشرها للجنوب اللبناني، وتضمنها تفاصيل وأسماء للمستوطنات المقترحة، حيث أقدمت على إعادة تسمية القرى والبلدات اللبنانية جنوب نهر الليطاني، مطلقةً عليها أسماء عبرية توراتية.

 

كما تتوازى جهودها مع الحرب النفسية التي يشنها الاحتلال على سُكان القرى والبلدات هُناك، حيث أرسلت المنظمة بالونات إلى سماء المنطقة تحمل رسائل تهدد السكان بالإخلاء الفوري لأن “هذه أرض “إسرائيل” لليهود”.

 

يُعبر مؤسس المنظمة عن رؤيتها بالقول: “إن وجود حدود مناسبة على أساس نهر الليطاني، لن يسمح فقط بالسيطرة على الحدود، ولكنه في الواقع سوف يختصر الحدود مع مرور الوقت، ليصبح هناك أكثر من خط مستقيم”، وأضاف: “الطريقة الوحيدة للفوز هي بناء المستوطنات”.

 

تعمل “أوري تزافون” بالتوازي مع منظمات أخرى تروج للاستيطان في قطاع غزة، منتهجةً النسق ذاته في تسويقها للاستيطان في الشمال وداخل العمق اللبناني، لكن بوسائل أكثر حداثة، فمن خلال شعار “حان الوقت لشراء منزلٍ في لبنان” بدأت المنظمة سلسلة عروضٍ وإعلانات تظهر فيها تصميماتٌ أوروبية لمستوطنات ومنازل يهودية على الأراضي اللبنانية، مع عبارات ترويجية تصفها بـ “المطلة على الجبال المغطاة بالثلوج، وسط مجتمعٍ دافئ على أرض أجدادنا آشر ونفتالي”.

 

وبالنظر إلى فكر المنظمة المتطرفة ومغزى “أرض أجدادنا آشر ونفتالي”، فإن ذلك إشارة إلى “مملكة “إسرائيل” الموحدة” التي جاوزت حدودها في السنة 1050 قبل الميلاد الجنوب اللبناني الحالي بأكمله، مع كلٍ من صيدا وصور وما حولهما.

 

وبرغم عدم وجود دلائل تاريخية أو أثرية على وجود “مملكة “إسرائيل” الموحدة”، على العكس من المملكة الفينيقية، إلا أن الفكر اليهودي المتطرف يرى في “إسرائيل” الحالية امتدادًا تاريخيًا ووجوديًا للملكة الأولى، ويحاول إحيائها من خلال المطالبة بتوسيع الاستيطان شمالًا.

 

وإضافة للعناصر التاريخية والدينية، تُقدم الإعلانات عناصر اقتصادية جذابة مثل الأسعار الخيالية للمستثمرين والمشترين، والتي تبدأ من 300 ألف شيكل، وهو سعرٌ خاص بجنود الاحتياط في جيش الاحتلال، الذين يزداد الاعتماد عليهم في الحرب في ظل الانخفاض في أعداد وعتاد الجنود النظاميين نتيجة حجم الاستنزاف المتزايد ما بين الجبهتين الشمالية والجنوبية.

 

الدعوة للاستيطان لم تتوقف عند حدود الإعلانات، بل تزامنت مع قصص للأطفال تُروج لوجود إسرائيلي دائم في لبنان، انتشرت لقطاتٌ عنها في مواقع التواصل الاجتماعية، تصف لبنان بأنه جزء من أرض “إسرائيل”.

 

ففي قصة مؤسس المنظمة “أوري تزافون” التي حملت عنوان “ألون ولبنان”، والموجهة لأطفالٍ تتراوح أعمارهم بين سنتين وست سنوات، يتم الإشارة إلى لبنان بأنه البلد الذي يتأمله الطفل “الإسرائيلي” يوميًا ويتمنى العيش فيه، ويفتقد جباله وحقوله ذات اللون البني المخضر”، وتتكرر فيه عبارات “لبنان لنا”.

 

هذه الفعالية التأسيسية والسُعار المحموم للاستيطان في لبنان، لم تتوقف عن المؤتمرات والإعلانات والقصص، بل تجاوزتها إلى حملات لنشر الملصقات في البلدات في جميع أنحاء شمال فلسطين المحتلة، حيث ملأت الأماكن العامة، بما في ذلك الملاعب والملاجئ الآن، بلافتات تدعو إلى استيطان لبنان.

 

كما نظمت تجمعات جماهيرية للدعوة إلى بناء المستوطنات في جنوب لبنان في “كيبوتس ألونيم”، ومن هناك قاد أفراد المنظمة سياراتهم لمدة ساعة شمالاً وتسلقوا جبل ميرون، إلى نقاط المراقبة المتعددة فيه حيث لبنان يقع في مرمى النظر. وكتبت المنظمة على “واتساب” إلى جانب صورة لمجموعة مبتسمة على قمة الجبل: “نظرنا إلى لبنان. إن شاء الله سنصل قريبًا إلى هناك”.

 

وفي مناسبة أخرى، نظم أفرادها خلوة ليلية بالقرب من الحدود للعائلات المستعدة للاستيطان في لبنان، وكتبوا على مجموعة الواتساب: “من خلال الاقتراب المادي من الحدود، نعبر عن رغبتنا في استيطان جنوب لبنان”.

 

لبنان: موضة الاستيطان الإسرائيلي 2024

 

في الثلاثين من أيلول/سبتمبر الماضي، وإثر موجة ضرباتٍ موجعة في قلب المقاومة الإسلامية اللبنانية، تعالت الأصوات اليهودية المتطرفة الداعية إلى المسارعة إلى الاستيطان في لبنان على ضوء ما ظنوه “انهيار حزب الله”، وغياب قوى المقاومة عن صد الطموحات الصهيونية.

 

حيث دعا كبير حاخامي الحاسيديم يتسحاق غنزنبورغ، إلى “استيطان لبنان” قائلًا: “لبنان جزء من أرض “إسرائيل” الممنوحة لبني “إسرائيل” حتى نهر الفرات”، مدعياً أنه “حان الوقت لغزو لبنان واستيطانه ويجب ضرب العدو بكل قوة وفق الشريعة اليهودية”.

 

تصريحات الحاخام جاءت تعبيرًا عن حالة انتشاء باستهداف السيد حسن نصر الله، ما أدى لاستشهاده، معتبرًا أن الميدان قد خلا الآن أمام “إسرائيل” لاتخاذ “قرار استراتيجي في حلم الاستيطان، وهو الاستمرار في سحق جنوب لبنان وعدم السماح لسكانه بالعودة”.

 

فيما تتساوق في اتجاهها مع دعمٍ متزايد للاستيطان في لبنان من قبل كلٍ من عضو الكنيست السابق موشيه فيغلين، وأميد كوهين من مركز حيروت، بينما يتزايد الإيمان الصهيوني بالمزيد من الدعم مستقبلًا، وإمكانية تطبيق حلمها على غرار الاستيطان في الجولان الذي بدأ باستيلاء على مئات القرى السورية هناك، لينتهي بضمٍ كامل حظي باعتراف الولايات المتحدة مع وصول ترامب للحكم.

 

وبينما تزداد شهية التوسع والاستيطان الإسرائيلي جنوبًا في قطاع غزة، وشمالًا نحو لبنان، وشرقًا نحو الأردن التي يُجاهر الوزراء الإسرائيليون وعلى رأسهم سموتريتش بأهمية ضمها باعتبارها جزءًا من “دولتهم”، تبقى المقاومة المستمرة هي آخر ما بقي لمواجهة الابتلاع والقضم.

 

وبينما تستعيد المقاومة عافيتها، وتتوحد صفوفها فيما تتزايد ضرباتها في عمق الكينونة العسكرية والسياسية والاجتماعية والجغرافية الإسرائيلية، تتراجع أولوية أحلام اليقظة من “الاستيطان في لبنان”، إلى الغرق في وحل الخيام والجنوب اللبناني عسكريًا، والهرولة سياسيًا واجتماعيًا تحت صواريخ المقاومة واللهاث وراء طائراتها المسيرة في حيفا، وما بعد بعد حيفا.

سجود عوايص

المصدر: الميادين