النفق

قصة ”النفق” هي قصة رجل نُفي إلى مصر، لكنه قرر العودة إلى وطنه غزة بسبب وجود زوجته وابنته هناك. فيقرر بمساعدة صديقه المرور عبر نفق ترابي يصل بين حدود غزة وصحراء سيناء. قرأنا في العدد السابق جانباً من قصته والمصاعب التي تعرض لها أثناء عبوره النفق، وإليكم بقية القصة:

2024-11-05

… أراد أن يصرخ، حاول أن يصرخ، لم يستطع وكأنه لا يمتلك القدرة على إخراج صوته من حنجرته، تلمس حنجرته و شعر برغبة في البكاء، فرغم اعتداده بنفسه لا يخجله البكاء  فقد بكى في مرات كثيرة قبل هذه اللحظة، لكنه لا يتذكر متى وكيف، فكل ما يشغل باله الآن أن يعرف كيف وصل إلى هذا المكان؟ ومن اين أتى؟ و إلى أين سيذهب؟، اختنقت دموعه داخل عينيه، وامتزجت الغصات الشاهقة ذعراً بتنفسه المتقطع، لم يسمح له الغبار المتناثر حوله بأن يشهق بالبكاء فتتمخض آلامه إلى الحياة.

حاول أن يلمس تلك الحفرة أو ان يُحدث جلبة كي يسمع العابر صوت حركته في الأسفل لكن ضيق المكان لم يعطه مجالاً ليتحرك أكثر، كل ما إستطاعه هو إيصال يده إلى الفتحة فوقه ولمسها كبداية ليعرف مدى اتساعها ثم صار يضربها بقوة أكثر علها تنهال حوله، لكنه اكتشف أنها أقسى مما تصور لها، خطر بباله الموازنة بين جانبي سجنه الضيق مد يده باتجاه اليمين أكثر ومد الأخرى باتجاه اليسار أيضاً، كانت الصلابة نفسها، لا فراغ فيهما، وهو مسجون ماعدا تلك الفتحة الصغيرة في الأعلى، أنزل يديه و خلع حزامه الموضوع في سرواله محاولاً تجريح سقف المكان بالقطعة الحديدية الصغيرة  المثبتة في رأس الحزام، كل ما أحدثته تلك القطعة بضع نثرات رذاذ قاسي كالبرد تساقطت على وجهه، عدة محاولات جعلته متأكداً أنه شيء صلب جداً ربما صخرة متينة أو ربما سقف من الإسفلت .شعر بالضيق الشديد وتخيل للحظة أنه أُسر هنا للأبد، شعر بالخوف الشديد، ليس من الموت فقط بل إنها هواجس الوحدة وخيالات راودته ليشعر بالضعف أكثر و كأنه يواجه نفسه الآن، حيث لا أحد ولا شيء سوى نفسه، هو، وهو فقط، إنه تحدٍّ بينه وبين نفسه، لا شريك ثالث لهما في هذه اللحظات، غرق في شروده دون أن يدرك بما يفكر تماماً، كل ما يشعر به هو قواه الخائرة تماماً، وإحساسه شبه المؤكد أنه الآن قد وصل إلى النهاية المحتومة لحياته التي طالما شعر أنها حياة مقعدة لم تقو يوماً على حمله إلى أي مكان يرغب بالوصول إليه، حياة سجانة جعلته مكبل اليدين وخالي الوفاض حتى من الأحلام، وها هو الآن لا يمتلك حلاً ولا أملاً يغير مصيره الحالك المحتوم الذي يدرك في قرارة نفسه أنه يليق لتلك الحياة التي عاشها، لكنها حلاوة روحه الشقية فاجأته بإحساس غامر بالرغبة في الحياة، والخلاص من هذه الحفرة المقيتة، وبأنه لا يريد الموت وحيداً هنا، رمى حزامه جانبا وأخذ يضرب فوقه بيديه الاثنتين منتفضاً بقوة استغرب وجودها لكن لم يملك الوقت ليفكر في مصدرها أو ماهيتها، كل ما يعنيه الآن إيجاد سبيل للحياة، أخذ يضرب الفتحة أعلى رأسه كمجنون امتلك كامل قوته فجأة، لكن دون جدوى، فالمكان مغلق تماماً وتلك الفتحة الصغيرة لا تتسع حتى لتمر منها يده نحو الأعلى وما يحيط بها قاس وصلب لا يمكن ليدٍ بشرية ضحلة القوة أن تخترقه، توقف ملتقطاً أنفاسه متلفتاً حوله محاولا إيجاد أسرع الحلول وأفضلها ليتناسب ومجاله الضيق ذاك، وبعد وهلة تفكير قصيرة اتخذ قراره الذي أوعز له عقله المذعور به، وبدأ يضرب بيديه الاثنتين المكان المحيط به يميناً ويساراً بنفس القوة التي دبت فيه سابقا، بدأ يضرب بقوة مزيلا الركام من حوله، حفر حول قدميه وجسده بيديه العاريتين، بقوة شديدة وبإصرار استثنائي، حتى أبعد ما استطاع إبعاده نحو الجهة اليمنى مما جعل يساره أكثر اتساعاً، مال بجسده كله نحو اليسار ليبعد ما تبقى من الركام حوله، زحف قليلاً وهو يمد يده يتلمس المكان مستعيناً بما تيسر له من النور الضعيف الآتي من الفتحة العلوية التي أصبحت خلفه.

يُتبع…

منعم السعيدي

 

المصدر: الوفاق/ خاص