من معلّم إلى صاحب مكتبة شارع على أحد طرقات غزة.. ما الذي يتطلع إليه محمد ماضي؟
في حيّز مكاني ضيق، يُشكّل حلقة وصل بين 3 جامعات عريقة في قطاع غزة، يفترش الستيني محمد ماضي الأرض، واضعاً عليها عدة كتب مختلفة الموضوعات، في محاولة منه لتذكير المارة بأهمية القراءة.
ولطول جلوسه في هذه النقطة، أصبح محمد جزءاً أساسياً من تفاصيل المكان، فما أن ينفث دخان سيجارته ويبدأ بالحديث حتى تجد المتجمّعين حوله ينصتون له، بعد أن يُشكّلوا حلقة تلتقي فيها الأفكار من أجيال متعددة.
ربما يتعجّب المارة من وجود رجل ستيني يرتدي لباساً رسمياً ويبيع الكتب على قارعة الطريق، وهذا ما أثار فضولنا ودفعنا إلى سؤاله عنه، فأوضح محمد ماضي لـ”الميادين الثقافية” أنّه سبق أن عمل معلّماً في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الدولية (أونروا) لسنوات عدة، محاولاً غرس حب القراءة لدى طلابه.
وما أن أنهى رسالته هناك حتى قرّر التوجّه نحو طلبة الجامعات والشباب، من خلال اختياره موضوعات عدة تهدف لاختراق وعيهم، وصولاً إلى تحقيق التغيير الذي يتطلّع إليه.
شغف محمد بحب القراءة منذ نعومة أظفاره. يذكر أنّ بداية رحلته مع الكتب كانت في العام 1975، بعد زيارته لإحدى المكتبات. فما أن بدأ بالكتاب الأول حتى وجد أنّ النهار قد انتهى وهو يتنقل بين الصفحات المختلفة، التي تأخذه من عالم إلى آخر، ليشعر وكأنّه قد وجد كنزه المفقود. يقول محمد إنّه في ذلك اليوم غادر وهو تاركاً عقله وحواسه هناك، ليقوده حنينه الفطري بعد تلك السنوات إلى العودة مرة أخرى، عبر افتراش الرصيف بمجموعة كبيرة من الكتب.
بات الرصيف يعرف محمد وكتبه جيداً، فلا أحد يستطيع اختراق عزلته مع كتاب بدأ به للتو، أو المساس بأيٍّ من الكتب الأخرى، خاصّة أنّه يعتبر الكتب المصفوفة حفنة من الرسل والعظماء، الذين قدّموا نتاج تجاربهم وعصارة عقولهم عبر الورق، لتنتقل الأفكار من جيل إلى آخر، لافتاً إلى أنّ ذلك العلم هو ورثة الأنبياء، لذلك أخذ على عاتقه مهمة توصيل تلك الأمانة إلى أكبر مجموعة ممكنة من القراء.
أكثر من 3 سنوات قضاها محمد في بيع الكتب وتقديم خدمة استعارتها لمن لا يملك المال، خاصة مع الوضع الاقتصادي المتردي لسكان القطاع، منطلقاً في ذلك من أنّ الكتاب لا يمكن الاستفادة منه طالما بقي معروضاً كالتحفة الفنية، وساعياً إلى جعله مادة يتمّ تداولها بين أكبر مجموعة ممكنة من الناس، لبناء جيل قوي ومثقف من الشباب، لديه أفكار متحررة ومعرفة بكُتّاب وطنه وبالكُتّاب العرب الآخرين، وكذلك لنزع ما يحاول الاحتلال زرعه في نفوسهم من تفريق وحقد.
يسعد محمد عندما يلتقي بأحد طلابه الذين قابلهم خلال فترة عمله في المدرسة، وتحديداً عندما يطلب منه اقتراح عنوان كتاب في أحد الموضوعات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية، لمساعدته في إجراء بحث عليه إتمامه في القريب العاجل، مشيراً إلى أنّ تلك الكتب تستطيع فعل ما لم تقدر عليه المدارس والجامعات، عبر بناء العقل الذي يوصله إلى درجة من الرقيّ والتحضّر والذوق والإنسانية، التي نحن بحاجة لغرسها اليوم في تعاملنا مع بعضنا البعض.
وعن أنواع الكتب التي يهوى الشباب قراءتها اليوم، يروي محمد أنّ هناك قِلّة من الشباب الذين يهتمّون بالدراسات العميقة، وبالمقابل تبتعد تلك الفئة بشكل كُلّي عن الموضوعات السياسية، وربما يرجع ذلك إلى خيبة أملهم من القيادات السياسية الفلسطينية التي لم تؤمّن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ممّا خلق لديهم عزلة دفعتهم إلى الهروب نحو قراءة الروايات الخفيفة، التي تمثّل بالنسبة لهم منفذاً يبتعدون من خلاله عن الواقع الصعب الذي يعيشونه.
في بداية عمله في بيع الكتب فوق الرصيف، في العام 2020، فوجئ محمد بعزوف الناس عن القراءة، وانشغالهم بأمور أخرى مختلفة، فحاول إغراءهم بوضع تسعيرة للكتب تقلّ عن سعرها في المكتبات، لتصبح في متناول جميع من يحبّون القراءة، خاصّةً أولئك الذين ينجذبون لمشهد الكتب التي تقف شامخة جنباً إلى جنب ساندةً بعضها، ليبدأ الحديث مع أحدهم من خلال الجدال على عنوان ما، أو غلاف مثير للدهشة، خالقاً بينهم مدخلاً لتقريب الأفكار.
يرفض محمد التنازل عن مكتبته الصغيرة والجلوس في المنزل لينعم بالراحة، التي أتاحها له التقاعد بعد سنوات من العمل، كونه أصبح اليوم منارة للعديد من الطلاب الذين أصبحوا لا يستطيعون تحديد موضوع الكتاب الذي سيخدمهم في عملية البحث المطلوبة من دونه. ويلفت إلى أنّه في كلّ يوم يحاول تفقّد الأسواق للبحث عن الكتب النادرة، لينفض الغبار عنها وتستطيع رواية ما بداخلها.
تبقى أعظم أمنيات بائع الكتب محمد ماضي هي أن يعي الشباب الفلسطيني قيمة الكتب، وأن يحافظوا عليها، خاصّةً أنّه أمضى عمره بأكمله في جمعها، ليقدّمها لهم على طبق من ذهب.
رفيف إسليم
صحفية من غزة