بعد مرور 40 يوماً على استشهاده، لا يزال بعضنا، ينكر، بطريقة أو بأخرى، فكرة أن السيد حسن نصر الله لم يعد بيننا. كأن الواقع الجديد عصّي على التصديق والهضم. هكذا، يمكننا أن نقع، منذ تاريخ 27 أيلول/سبتمبر الماضي، على ضروب متفاوتة من حالات الإنكار.
بعض الرافضين لاستشهاد السيد نصر الله، يغذون رفضهم مستعينين بخيال بوليسي، يحوّل غياب الأمين العام السابق لحزب الله إلى جزء من خطة عسكرية معدّة مسبقاً، تجعله يدير المعركة في الظل ومن مكان آمن يقيه الموت.
أما من ضاقت بهم سبل الوصول إلى الجواب الشافي فقد لجأوا إلى “غوغل”. تصوروا! ويظهر على محرك البحث أن أول سؤالين طُرحا حول السيد نصر الله كانا: “هل السيد حسن نصر الله استشهد؟”، و”هل استشهد سيد حسن؟”.
نعم، استشهد السيد حسن، لكن لأسباب عديدة، نورد بعضها، ما زال الأمر صعب التصديق عند كثيرين.
حضور متعدد الأبعاد.. نصر الله بوصلة أخلاقية وأيديولوجية
واجه البشر عبر تاريخهم السياسي والثقافي والروحي، صعوبة بالغة في تقبل وفاة قادتهم. الزمن بخيل على الناس بالقادة. قد نعجز عن تذكر أسماء رؤساء دول أو منظمات، لكن يمكننا بسهولة تعداد أسماء قادة أثّروا في تاريخنا وتاريخ العالم.
هكذا يصبح إنكار رحيل أي قائد لدى محبيه وجمهوره، تعبيراً عمّا يمثله بالنسبة لهم من قوة سياسية وثقافية وأيديولوجية، تتقاطع فيها عوامل نفسية وثقافية وعاطفية عميقة. فالقادة غالباً ما يمثلون أكثر من ذواتهم ويرمزون إلى قضية أو أيديولوجيا أو حركة توفر شعوراً بالأمان والتوجيه لدى أتباعها.
خلال 4 عقود نجح السيد حسن نصر الله في ترسيخ حضور متعدد الأبعاد. تجاوزت سلطته الرمزية تأثير “حزب الله” المباشر في الحياة السياسية اللبنانية، خاصة بعد العام 2000، وأصبح مع الوقت شخصية سياسية ودينية ورمزاً إقليمياً يمثّل قيم المقاومة والصمود والدفاع عن الهوية العربية والإسلامية، وكذلك الأيديولوجيا المناهضة للإمبريالية الأميركية.
أدّت لحظة تحرير جنوب لبنان عام 2000، دوراً حاسماً في صعود نجم السيد نصر الله لبنانياً وعربياً. منذ ذلك الحين، بات يشكل رمزاً للاعتقاد والثقة بإمكانية الانتصار على “إسرائيل”. المحازبون، المؤيدون، المحبون، لبنانيين وعرباً، جعلهم نصر الله، القائد، شهوداً وشركاء في سردية مضادة لسرديات الهزيمة. حينها أخبرهم بلسانه الفصيح وكاريزماه التي لا تضاهى أنهم أقوياء. من على بعد كيلومترات قليلة من فلسطين المحتلة، خطب قائلاً لهم بالحرف، مرتين، إن: “”إسرائيل” هذه أوهن من بيت العنكبوت”.
منذ ذلك التاريخ أيضاً، شهد العالم والمنطقة أكثر من محطة مفصلية. في العديد من هذه المحطات، لم يكن نصر الله رجلاً في الظل. كانت مواقفه واضحة من كل ما يجري. من الشرق الأوسط الجديد، والاحتلال الأميركي لأفغانستان ثم العراق، والحرب على “الإرهاب”، وصولاً إلى ما عرف بــ “الربيع العربي” وتداعياته، ثم الحرب على اليمن والتطبيع مع “إسرائيل” وانتهاء بجبهة إسناد غزة.
جعلنا السيد نصر الله، فعلاً وقولاً، شركاء أخلاقيين، على الأقل، في المشروع المناهض للإمبريالية والمدافع عن المستضعفين، مكوّناً رابطة قائمة على القيم المشتركة للعدالة والتضامن ضد الظلم.
رحيل نصر الله بات يعني غياب مرشد أخلاقي جسّد قيماً ومبادئ شكلت هويتنا الشخصية والجماعية. ولعل جزءاً من الإنكار الضمني لشهادته مرده الشعور بفراغ شخصي والخشية من فقدان الموجّه في عالم يزداد توحشاً واضطراباً.
“السيد حسن وعائلته وأولاده فداء لكم”
في 14 آب/أغسطس من عام 2007، في الذكرى الأولى للانتصار على “إسرائيل” عام 2006، توجه السيد نصر الله إلى جمهور المقاومة قائلاً: “أنتم تعرفون أن السيد حسن وعائلته وأولاده فداء لكم”.
نصر الله، القائد، عبّر يومها عن امتنانه العميق لمن بادلوا المقاومة بعبارات الفداء بعد تدمير بيوتهم كجزء من العقاب الجماعي الإسرائيلي بحقهم. كان يعي جمهور المقاومة حينها أن نصر الله صادق في ما قاله. أثبتت التجربة، بالنسبة لهؤلاء، أنه من طينة الرجال الأوفياء الذين يحفظون للناس تضحياتهم ويسعون إلى بلسمة جراحهم. شواهد كثيرة يحفظها محبو نصر الله من مسلمين ومسيحيين، مقرونة بوعود باتت قاطعة لا شك فيها. نذكر منها قوله لمن دمرت مساكنهم في عدوان تموز/يوليو إن بيوتهم: “ستعود أجمل مما كانت”، وهكذا كان. هذا الأمر انسحب أيضاً على مؤسسات تابعة لحزب الله، وفّرت مظلة أمان اجتماعي لمئات آلاف اللبنانيين من مختلف الطوائف بعد الانهيار الكبير عام 2019.
يعلم جمهور السيد نصر الله الواسع أيضاً، ومن ضمنهم أولئك الذين لا ينتمون إلى أيديولوجية دينية أو من طوائف غير إسلامية، أن بناء فلسفة الوطنية والتعايش والتكافل والصمود والتضحية، لم تكن يوماً نتاج حماسة خطابية. ففي الوقت الذي يعيش فيه زعماء ورؤساء في رفاهية وبذخ، كان نصر الله يحيا براتب أقل من 1400$ شهرياً، وفيما يُبعد زعماء عائلاتهم عن دائرة الخطر، قدّم نصر الله، بِكره هادي، قرباناً لتحرير أرض الجنوب.
هكذا شكّل زهد نصر الله وصدقه وتقشفه ثم شهادة نجله هادي، سابقة في التاريخ السياسي العربي الحديث ومصداقاً للتضحية، معززة الولاء والارتباط الشخصي والعاطفي العميق بالسيد نصر الله. ليس عبثاً أن شبّهه البعض بالرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر. فقد تحوّل، عند عوائل الشهداء خاصة، ثم المحازبين والمؤيدين، إلى قائد مثالي في الذاكرة والوعي الجماعي ليس سهلاً الاعتراف برحيله. ذلك أن الإقرار بشهادة نصر الله، يستدعي عند البعض قلقاً حول المستقبل وعدم يقين بمآلاته، بعد فقدان رمز كان مصدر إلهام وتجسيداً لصمود جماعي.
عزّ بعد فاقة
واجه شيعة لبنان أشكالاً مختلفة من التهميش لأسباب اجتماعية، اقتصادية، وسياسية. تاريخياً، تمركزت الطائفة الشيعية في المناطق الريفية في جنوب لبنان والبقاع، حيث تميزت تلك المناطق بالحرمان من الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والبنى التحتية. الأمر الذي أدى إلى حركة نزوح إلى ضواحي بيروت الجنوبية والشرقية وتكوين ما عرف بــ “أحزمة البؤس”.
لم يُخفِ السيد نصر الله يوماً أنه كان واحداً من أبناء تلك العائلات الفقيرة والنازحة. حتى أنه حمل كمن سبقه من قادة الشيعة، وأبرزهم الإمام موسى الصدر، راية قتال “إسرائيل” ورفع الظلم والتهميش عن طائفة لها ثقل ديمغرافي كبير.
شكّل تحرير الجنوب، وقبلها اتفاق الطائف عام 1989، مدخلاً لحصول الشيعة على تمثيل أكبر في الحكومة والبرلمان، مما أسهم في تقليص بعض مظاهر التهميش. لكن الأهم، أن الشيعة خلال مسيرتهم تلك، استمدوا قوتهم وثباتهم من أيديولوجيا دينية تضرب بجذورها عميقاً في التاريخ، ومثّل نصر الله رمزاً لامتدادها الديني والثقافي والأخلاقي.
استطاع نصر الله، كما الإمام الصدر، أن يربط بين السلطة الدينية والعمل السياسي. الأمر الذي عزز من مكانته كقائد روحي وسياسي، ومثّل شخصية هامة تعزز الهوية والفخر وتغذي الشعور بالانتماء والتضامن الثقافي.
كما بات نصر الله، بالنسبة للكثير من الشيعة، مصدراً للحماية والأمن في ظل التهديد المستمر من “إسرائيل”، وكذلك من خصوم سياسيين لهم ارتباطات تاريخية بـ “دولة” الاحتلال، ويسعون، إذا سنحت لهم الفرصة، لإعادة عقارب ساعة النظام اللبناني إلى ما قبل العام 1975.
هكذا يصبح إنكار شهادة السيد نصر الله من آليات الدفاع النفسي الجماعية، ضد فكرة غياب الأب الحامي لأتباع طائفة راكمت بالتضحيات الجسيمة إنجازات وطنية وسياسية واقتصادية وعلمية وثقافية.
“أنا مثلكم أبكي وأحزن”
على عكس الصورة الشائعة عن القادة المحاربين، تميّز السيد حسن نصر الله بمزيج ساحر من الصلابة والحنو.
في تصريح مؤثر، عبّر السيد حسن نصر الله عن مشاعره بشكل شخصي قائلاً: “أنا مثلكم أبكي وأحزن”. تحدث عن شهادة نجله هادي، وقال لجمهوره ومناصريه إنه كما كل أب، يحزن ويبكي لفقدان أحد أولاده. شارف على البكاء في أكثر من خطبة ومقابلة، كان يتحدث فيها عن فلسطين واليمن أو عن شهادة شخص عزيز عليه، كما هي الحال مع الأمين العام الأسبق لحزب الله، السيد عباس الموسوي.
كاد نصر الله يبكي أيضاً حينما شبّه تضحيات جمهور المقاومة بما فعله الأنصار مع النبي محمد بعد معركة حنين.
هذه الشفافية في التعبير عن مواقفه الإنسانية والعاطفية تجاه الأحداث التي يشترك فيها الناس وتلامس مشاعرهم، أظهرت الجانب الإنساني من شخصية السيد نصر الله، وعززت من تواصله العاطفي مع جمهوره. كأنه يقول لهم، آلم لآلامكم وأنا مثلكم حزين وأبكي.
إظهار المشاعر، بما في ذلك الدموع، تعبير قوي عن الأصالة والإنسانية، ويشير إلى مدى اهتمام القائد العميق بكل ما يتصل بهموم أبنائه. وبدلاً من أن ينظر الجمهور إلى البكاء كدليل ضعف من قائد بمستوى قوة وحضور وصلابة السيد نصر الله، عززت دموعه في أكثر من مناسبة الاتصال مع الناس وتعاطفهم معه. ولذلك فإن رفض الإقرار بشهادة السيد نصر الله، هو نفسه رفض الأبناء الاعتراف برحيل والدهم الصلب والعاطفي والقريب من همومهم في آن.
“حيّ” إلى أن يُشيّع ويُدفن
عملية تقبّل الموت ورفضه متجذرة بعمق في النفس البشرية. بالنسبة للعديد من الأشخاص، تُعد مراسم الجنازة والدفن خطوات أساسية تُضفي شعوراً بالنهاية، وتسمح للناس ببدء التعامل مع الخسارة بشكل كامل.
ولعل أول دليل ملموس على تقبل الفقدان، هو رؤية الجثمان أو حضور الجنازة. ما يوفر دليلاً لا يمكن إنكاره على أن الشخص قد رحل. وهذا يسد الفجوة بين المفهوم المجرد للموت وبين الواقع.
تأخير تشييع السيد حسن نصر الله واحد من أسباب صعوبة تصديق شهادته عند بعضنا. بالنسبة لهؤلاء، فإن رؤية كفن نصر الله عبر فيديو قصير، لا يفتح باب الحداد الرسمي. ويظهر أن تقبل شهادة السيد حسن نصر الله، والتعامل بجدية مع هذا الواقع، لن يحصل قبل تشييعه ودفنه رسمياً. فهذا الطقس سيوفر لمحبي السيد حسن مساحة للتأمل والتعامل مع الفقدان بطريقة واقعية تحررهم من الارتباط بالوجود الجسدي لرجل لا يجود الزمان بأمثاله كثيراً.