حين نظرتُ إلى وجهه على شاشة التلفاز للمرة الأولى وأنا في طور الطفولة قلتُ إنّ في هذا الوجه ما يُكذِّب العالَم كلّه ولا يَكذب. وجه هذا الرجل صادق، وفي بحّة صوته ما يكفي كي يُعاد ترتيب العالم من البداية، وأن يُعاد تشكيله، أو: أن يُحافَظ عليه.
لكنّ في العالم ما لا ينبغي أن يظل، وهو واضحٌ وضوح الشمس: “إسرائيل”. السيد حسن نصر الله، هذا الرجل، تحديداً، كان إمكانيّتنا لكي يرجع العالم إلى صوابه من دون “الدولة الاستعمارية الأخيرة”، كما يسمّيها جاك دريدا.
كنا نعرف، صغاراً وكباراً في مخيّم اليرموك في دمشق أنّ العالَم مشوَّه، وأنه “لا ينبغي أن يكون” على ما هو عليه. ثمة شرٌّ كبير يجب التخلّص منه، وحملٌ ثقيل يجب أن ينزاح، وهو معروفٌ وواضح: هذه الحالة الانتحارية التي لا يمكن الدفاع عنها (كما يصفها دريدا أيضاً) واسمها “إسرائيل”.
وما يُقال في المخيّم هو أصدق القول، فالمخيّم تذكارٌ، وهو ندبة فلسطينيّة، وهو سكّين الفلسطينيين، سلاحهم، وهو السلاح المرميّ عليهم في آن، لأنه يذكّرهم بما لا ينبغي أن يكون: أي اللجوء وبطاقة المؤن، وأنهم صاروا أبناءً للصليبِ الأحمر.
المخيّم ذاكرة فلسطين، والرجل الذي وصّف المعركة كما يجب أن تكون كان السيد حسن نصر الله، إذ قال إن: “المعركة ضد “إسرائيل” كاملة الشرعية”. وهو ما فقدنا سماعه في المخيّم، منذ متى؟ لم أعد أذكر.
كان الخطاب الذي يصلنا إلى المخيّم مختلفاً، وعرفنا أنّ بعض العرب يقدّمون تبناً للحرب، لكن في الجهة المعاكسة. وأننا في هذا الحيّز الصغير من العالم، الذي اسمه مخيّم، وأسمته “الأونروا” مدينة، لا نعني أحداً. لكنّ رجلاً عاش أول عمره في الكارنتينا في بيروت، والتقى باللاجئين الفلسطينيين، آمن بمظلومية فلسطين.
وإذ كنا صغاراً، ورأيناه وسمعناه على الشاشات، عرفنا أنّ الرجل إن قال فعل، وإن نطق تمظهر الكلامُ في حدث، وإن رفع سبّابته مديناً العالَم، ومهدِّداً، فذاك يعني أنّ شيئاً في العالم يجب أن يحدث. وفي الرجل كان يتحقق قول الجاحظ:
“ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله، وإلّا فإنّ السكوت عن قول الحقّ في معنى النطق بالباطل. ولعمري إنّ الناس إلى الكلام لأسرع، لأنّ في أصل التركيب أنّ الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول”.
وقد عرف الرجل معنى القول ومعنى الفعل، وزاوج بينهما. وقد أسّس خطابه على ذلك، ولم يكن يتحاشى موته فيه، بل يدعو إليه ويرحّب به.
الخطابات كلّها التي وقفنا نترقّب بعضها ونحن ما نزال صغاراً في المخيّم، أو ما لحقها بعد أن كبرنا، مقرونةً بالأفعال، هي ما جعلت “الدولة الاستعمارية الأخيرة” ترمي 80 قنبلة زنة كل منها طن، محاولةً أن تتخلص من، حسن نصر الله، مُقلِقها الأكبر.
شرق أوسط جديد لم يولد أبداً
أثناء حرب تموز/يوليو 2006، أعلنت كوندوليزا رايس أنّ آلام هذه الحرب هي: “الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”.
لم تتحدث وقتها عن “الشرق الأوسط الكبير”، الذي أطلقه جورج بوش الإبن عام 2002، ولا عن “الشرق الأوسط الموسّع”، الذي اضطرت واشنطن لتبنّيه عام 2004 بفعل الضغوط الأوروبية، بل ذهبت إلى التعبير نفسه الذي صاغته “إسرائيل”، خاصة في كتاب شمعون بيريز الذي يحمل العنوان نفسه: “الشرق الأوسط الجديد” الذي صدر سنة 1996.
في الذكرى الأولى للحرب عاود السيد كلامه: “لا شرق أوسط جديداً بعد 14 آب 2006، ذهب مع الريح ورايس بلعت لسانها وإلى الأبد، وانهار الشرق الأوسط أمام مجاهديكم”.
وأعاد تصريح رايس الذي قالته خلال الحرب: “إننا نشهد مخاض الشرق الأوسط الجديد، لا مكان فيه للمقاومة والممانعة بل هناك دويلات طائفية ممزقة متقاتلة يلجأ كل منها إلى أميركا و”إسرائيل” لتكون حامية لها”.
لم أكن أعرف في حينه ما معنى “شرق أوسط جديد”، ولكنني خفتُ من المصطلح، لأنّ في هذا الجديد حتماً ليس ثمة فلسطينيون. وقد أثبت مسارٌ تاريخي طويل أنه فعلاً ليس ثمة “فلسطينيون” في الشرق الأوسط النيوليبرالي هذا، فمع توقيع اتفاقات التطبيع عام 2020 التي أطلق عليها “أبراهام”، قيل إن الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة.
عرفتُ شيئاً واحداً، أنّ رجلاً اسمه حسن نصر الله منع هذه الولادة، وكنتُ ما أزال بعد في المخيّم.
ترتيب جديد؟
رمت “إسرائيل” 80 قنبلة زنة كل منها طن، فاستشهد السيد نصر الله وآخرون. ما الذي أطلقته “الدولة” الاستعمارية الأخيرة على هذه “العملية” والتي هي في الأصل مجزرة؟ سمّتها: “ترتيب جديد”. ما يوحي بأنها تحاول لململة أشلائها، وتوعد مَن فيها بمستقبل آمن وغير مُقلِق. إنّ مَن أقلقها وزعزع أمنها طيلة سنوات قد رحل، وبهذا يمكن أن تلتقط بضعة أنفاسٍ لها.
إطلاق اسم “ترتيب جديد” على رحيل السيد حسن ليس بالأمر العبثي على الإطلاق. تعرف “إسرائيل” أنّ قاتل مشروعها على امتداد سنوات كثيرة إنما هو السيد، وأنّ رحيله يمكن أن يسمح بمخاض مشروع “جديد” تطمح إليه على مدى عقود زمنية.
قلتُ: حين نظرتُ إلى وجهه على شاشة التلفاز للمرة الأولى وأنا في طور الطفولة رأيتُ في سحنته ما يُكذِّب العالَم كلّه ولا يَكذب. وجه هذا الرجل صادق، وفي بُحّة صوته ما يكفي كي يُعاد ترتيب العالم من البداية، وأن يُعاد تشكيله من دون “إسرائيل”.
كان السيّد إمكانيّتنا الأكبر لتحقيق ذلك، ليرجع العالم إلى صوابه. وأكثر من ذلك: كان ضابطاً أخلاقياً لجزءٍ كبير من المنطقة، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، بل ورادعاً.
مفاد “الترتيب الجديد” هذا ونتيجته: ميوعة سياسية عربية “جديدة” بدأت منذ زمن ولكنها ازدادت وقاحة، واعتقاد “إسرائيل” أنها تخلّصت من مُقلِق أمنها.
غريب، كيف استطاع الرجل، وهو في أبّهاء الرحيل، أن يقضّ مضجعها أكثر.
في خطابٍ قديم له قال السيد حسن مازحاً إنه سمع “واحداً منهم” (أي محلل سياسي إسرائيلي) يقول إنهم “إسرائيل” يمشون على 4، مثل الحمير، وأنّ الحزب ركب عليهم. قال: هذا
صحيح.
تعرف “إسرائيل”، مجدداً، بعد اغتيال السيد نصر الله، أنها تمشي على 4 أيضاً. أنّ هذا الاغتيال سيركبها، وتمشي كمن يحمل أسفاراً.
يوسف م. شرقاوي