لعل من البديهي القول، إن العدالة بآفاقها المختلفة وأطرها المتعددة، وعناوينها المتكاملة، تشكل روح الإسلام وجوهره، وأن جميع مفاهيم الإسلام وقيمه، قد ركزت أهدافها وغاياتها على ضوئها، وذلك في جميع أنظمة الإسلام وتشريعاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية.. وانطلاقا من هذه الحقيقة، نجد أن الإسلام يحارب العنصرية ويعتبرها مخالفة لأسس وبديهيات الإسلام، إذ اعتبر الإسلام الإنسان كأخيه الإنسان في كل شيء، وجعل معيار التفاضل أمرا كسبيا يتمثل ويتجسد في عنوانه العام في كلمة (التقوى) إذ قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)..
ومن هنا نجد الإسلام يحذر من اتباع الهوى والشهوات، باعتبارهما نافذتين من نوافذ الابتعاد عن العدالة، وتعطيلا لحركة التفكير السليم في حياة الإنسان. وقد عبر الشاطبي في موافقاته عن ذلك بقوله: ما جاءت الشريعة إلا لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم..
فالعدالة هي روح الإسلام وجوهره، وحينما تنتشر في أرجاء أي مجتمع فإنها تزيل كل عوامل التأخر، وأسباب التنافر والتعصب، وتؤكد التعاون بين أبناء المجتمع الواحد في مختلف المجالات، وتعمق روح الإخاء والمواطنة الصادقة بين أبناء الوطن الواحد..
والعدالة ليست دعوة أخلاقية، تتجه فقط إلى تهذيب النفوس ونقاء القلب والسريرة، بل هي خريطة عمل متكاملة، تستوعب جميع جوانب حياة الإنسان. ففي علاقة الإنسان مع نفسه ينبغي أن يكون عادلا، كما أن علاقة الإنسان بنظيره الإنسان بحاجة إلى العدالة القائمة على المشترك الإنساني وأخلاقية التسامح وحسن الظن، وقد قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)..
فالعدالة ليست محصورة في جانب واحد، بل هي تشمل جميع الجوانب في العلاقات الأسرة والاجتماعية والتجارية والاقتصادية والثقافية والسياسية..
وإن المجتمع الذي تسوده العدالة، هو المؤهل ذاتيا وموضوعيا، لاجتياز عقبات التخلف، وتذليل صعاب الانحطاط، وعين أبنائه دائما على هدف التقدم وتطلع البناء الحضاري..
وفي إطار الحركة الثقافية بمنابرها المختلفة وأطرها المتنوعة، نفهم قيمة العدالة متجسدة في النقاط التالية:
إن العدالة في بعدها الثقافي، تقتضي تكوين العلاقات وفتح الجسور وتحقيق مفهوم التعارف مع الثقافات الإنسانية المختلفة، لأنها لا تشكل الشر المطلق أو الخطأ المحض. بل هي ثقافات إنسانية تشكلت عبر تجربة طويلة، لذلك فإن الانكفاء عنها يعد ظلما لتلك الثقافة، لأنها إنجاز إنساني عام، بإمكانها الاستفادة من عناصرها بما يخدم وضعنا وراهننا..
وتكوين العلاقات والتعارف مع المدارس الفكرية والثقافية الموجودة في الساحة ليس من أجل الدخول في حوار لاهوتي أو مذهبي، وإنما من أجل تحقيق مفهوم التعارف الثقافي المتبادل، الذي هو التجسيد العملي لمفهوم العدالة في الدائرة الثقافية.
والتعارف الثقافي لا ينجز بمعرفة القشور والفروع والنتائج لتلك المدارس فقط، وإنما نحققه عن طريق التعمق المعرفي في أصول الثقافات الإنسانية، وفهم بنيتها الأصلية من مصادرها المباشرة، حتى لا نقع أسرى الإسقاطات الأيدلوجية، ولا بد أن نتذكر في هذا المجال، أن آفة العدالة في إطار التقويم الثقافي والحضاري، هي القيام بعملية تعميم أفكارنا وإسقاط منظومتنا العقدية على واقع ثقافي غير واقعنا، وعلى ساحة غير الساحة المتأثرة بشكل مباشر من تلك المنظومة العقدية.
لأن المجتمعات الإنسانية تتفاوت في مشاكلها وصعوباتها، كما تتفاوت في متطلباتها وأولوياتها. وعملية الإسقاط الأيدلوجي، تعني عدم الاعتبار بهذه الأمور، وتغييبا للبعد التاريخي، ودوره في إنضاج الأفكار وبلورة الثقافات. فالعدالة الثقافية تقتضي مراعاة هذه الأمور والقضايا في تحديد المواقف، وتقويم الأفكار والثقافات. وأن تجاوز هذه الأمور يعد ظلما صريحا لمسيرة ثقافية ضخمة، نختزلها في موقف سريع، أو كلمة غامضة، أو تصور مطلق، لا يخرجنا من دائرة الفهم الضبابي أو الفهم المنقوص الذي لا يصح به اتخاذ موقف أو اعتباره معيارا للتقويم..
الرغبة الحقيقية في تطوير الذات، وتوسيع آفاقها المعرفية، والاستفادة من معارف الآخرين وإنجازاتهم، والاعتقاد الجازم بأن الإنسان مهما علا كعبه، فهو لا يمتلك المعرفة المطلقة والحقيقة الكاملة. بل معرفته نسبية، تغتني بالحوار والتفاعل وعدم التكبر، والتواضع للعلم والمعرفة، والتعلم من الآخرين، وإن كانوا أدنى منه منزلة وحسبا. فالمعرفة ليست صناعة فردية فقط، بل يشترك الجميع بتفاعلهم وتثاقفهم وحوارهم في صنع تلك المعرفة..
لهذا فإن الانحباس في إطار الذات، والانغلاق على معارفها، بدعوى التميز أو امتلاك ناصية المعرفة اليقينية ليس من العدالة في شيء، فليس بمقدورنا أن نجزم بموقف ما، أو قناعة فكرية ما، على ضوء معلومات قليلة، لا تكفي لإصدار حكم سليم أو الوصول إلى قناعة فكرية ثابتة..
العدالة الثقافية تعني الحوار والثقة بالنفس واحترام الرأي الآخر، والابتعاد عن سلاح التسقيط والتخوين والتفكير، وكما قال الشيخ محمد عبده (1849- 1905م): إذا صدر قول من قائل، يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر..” والبداية في الحوار هي احترام كل طرف لنظيره، وتسليمه الضمني بأن ما لدى الأنا لا يعلو على ما لدى الآخر والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحوار لا يعرف العلاقة بين الأعلى والأدنى بل العلاقة بين الأكفاء..
هؤلاء الذين يعرفون أن العقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس كما قيل عن ديكارت الفيلسوف. وناتج الحوار هو ناتج الفعل الجدلي، تغيير نوعي في الأطراف المتحاورة، المتقابلة، المتعارضة، تغيير يجعل من نقطة النهاية مخالفة لنقطة البداية حتما، ذلك لأن فعل الحوار نفسه كفعل الجدل، يؤلف بين عناصره المتقابلة الواقعة بين أطرافه المتعارضة، ويصوغ منها ما يستوعب الأطراف كلها ويتجاوزها في آن، صانعا بذلك بداية أخرى لحوار آخر لا يكف عن التحول والتولد ” (راجع هوامش على دفتر التنوير – جابر عصفور – ص 265)..
ومن متطلبات العدالة أيضا، الانفتاح على جميع الاجتهادات الثقافية والفكرية في الأمة، لانتخاب أصوبها وأصلحها، والابتعاد عن الاعتبارات السوداء التي تمنع عملية الانفتاح على الاجتهادات المطروحة في الساحة..
وفي إطار الانفتاح، لا بد من تجاوز الإحن النفسية والتاريخية والفكرية، حتى نصل إلى مرحلة متقدمة من الفهم العميق لمختلف مدارس الاجتهاد الفكري والتعاون البناء..
وجماع القول: إن العدالة الثقافية، تؤدي إلى التراكم المعرفي، وتكثيف الوعي في الوسط الاجتماعي للأجواء الحيوية التي توفرها قيمة العدالة في الحقل الثقافي..
محمد محفوظ