في مدوّنة أدب الرحلات اشتهرت أسماء وكتب بقيت في ذاكرة التاريخ والعالم.. أسماء كثيرة في هذا الميدان في تراثنا العربي الإسلامي وفي التراث العالمي، نذكر منها على سبيل المثال محمد بن عبد الله ابن بطّوطة صاحب “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وماركو بولو المشهور برحلاته، وأبا الحسن علي المسعودي مؤلّف “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، ومحمد بن أحمد ابن جبير الأندلسي صاحب كتاب “خطرة الطّيف في رحلة الشتاء والصيف”، ورفاعة رافع الطّهطاوي مؤلّف “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، وشكيب أرسلان مؤلّف “الحلل السّندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسية”، وأحمد فارس الشّدياق الذي ترك لنا كتاب “الواسطة في أحوال مالطة”، والدكتور عبد الله منّاع صاحب كتاب “العالم رحلة”، وكثيرين خلّدتهم كتاباتهم عن رحلاتهم المختلفة في شتّى العصور والأزمان، تركوا لنا أثارا ومراجع عن بلدان كثيرة كانت مجهولة في الماضي البعيد والقريب.. هي كتابات شكّلت أدبا قائم الذات له مميّزاته وخصائصه.. إنّه أدب الرحلات.
لنصل اليوم إلى كتاب أخي وصديقي العزيز الدكتور خالد شوكات عن رحلاته في استطلاعات شيّقة كنّا تابعناها على صفحات مجلّة “المصير” الغرّاء.. إنّها استطلاعات فيها الأسلوب الأدبي السّلس الجذّاب وروعة الوصف ودقّة الملاحظة واهتمام بالجزئيات والتفاصيل ونقل المشاهدات.. إذ جاءت هذه الاستطلاعات بإضافاتها إلى ما كتبه السابقون عن رحلاتهم لتؤكّد لنا دور الرّحلات في إبراز التواصل بين شعوب العالم وأممه وثقافاتها وحضاراتها وعاداتها وتاريخها المتنوّع الزاخر والمفيد واختياراتها ومساراتها الاجتماعية والحياتية وقناعاتها الفكرية.. ونحن نعرف أنّ خالد شوكات ليس جديدا على أدب الرحلة والرّحلات، فهو غامر وقام بأوّل رحلة في حياته عندما كان صبيّا في الخامسة عشرة وسافر لوحده في قطار من تونس إلى الجزائر، مثلما جاء ذلك في كتابه الجميل الذي بين أيدينا: “رحلاتي…”.
في الحقيقة إنّ هذا الكتاب كنز عن مناطق وأماكن في بلدان لم نكن نعرف عنها شيئا فأصبحنا بواسطته نعرف أشياء ونحن في رحلات حول العالم ونحن في بيوتنا..
كان الرّحّالة في قديم الزمان يسافرون في رحلاتهم مشياً على الأقدام ثمّ استعملوا الدّواب كالحمير والخيول والإبل… وكذلك مراكب البحر… ثمّ أصبحوا في عصور متقدّمة بعدما تطوّرت البشرية يستعملون الدّراجات الهوائية والنارية والسيارات… لكن بفضل العلم والتكنولوجيا والتقدّم البشري استعمل الرّحّال “خالد شوكات” مؤلّف هذا الكتاب وبطل هذه الرّحلات الطائرة للوصول إلى البلدان التي زارها في مختلف أنحاء العالم.
فإذا أمضى الرّحّالة القدماء عشرات السنوات في رحلاتهم فإنّ خالد شوكات ربح عن طريق الجوّ وقتا كثيرا واستغرقت رحلاته زمناً قصيراً.. إنّه رحّال بأتمّ معنى الكلمة.. هنيئاً له برحلاته وبما دوّنه في استطلاعاته في هذه الرّحلات إلى أصقاع بعيدة عنّا جغرافيّا لم نكن نعرف عنها شيئاً أو كنّا نعرف بعض الشيء بضبابيّة. فالإيطالي كريستوف كولومبس الذي اكتشف أمريكا في نهاية القرن الرابع عشر ألم يكن رحّالا بحريّا رائدا؟.. وابن بطّوطة الذي يتمتّع بمكانة كبيرة في أدب الرحلات وكتب عن كلّ رحلاته وتنقّلاته ألم يكن رحّالاً؟ .. وبكتابه “رحلاتي…” أحيا خالد شوكات أدب الرّحلات في عالم تمزّقه الفوضى والاضطرابات والحروب ويتعثّر فيه السّلام.. فاستطلاعات خالد شوكات تجدّد أدب الرحلة، وهي أدب رحلة حديث..
تتضمّن فصول هذا الكتاب مشاهدات حيّة وقراءات غنيّة ومفيدة وممتعة لوقائع ميدانيّة عاشها الكاتب ولاحقها ولاحظها أثناء تنقّلاته في رحلاته وسفراته المختلفة إلى مدن وقرى ومناطق كثيرة نقلها إلينا في تصوير ووصف مباشرين مع معلومات نادرة أمتعنا بها وأفادنا كأنّنا قمنا بهذه الرّحلات معه، فهو نقلنا إلى مناطق بعيدة من العالم لم نكن نعرفها – كما قلت – وفي هذه الاستطلاعات أصبحنا نعرفها وأصبحت تعرفنا.
في مشاهداته في برّ الله الواسع لم يتعامل الرّحّال خالد شوكات بالخيال بل هو اعتمد على الواقع وحمل إلينا صادقا بعد رحلاته في استطلاعاته رؤى وقضايا وجغرافيا وتاريخا وثقافات وتقاليد وعادات ونماذج عيش وحياة لمجتمعات عاش فيها تباعا ومرّ بها تعيش بعيدة عنّا ونعيش بعيدين عنها فأصبحت لدينا أفكار ومعلومات عنها.
ممّا يميّزها، أنّ هذه الاستطلاعات لم تكن تقارير صحفيّة جافّة بل هي نصوص مكتوبة بقلم فنّان مبدع لأنّ صاحبها أديب وشاعر وروائي، لغته أدبيّة راقية، قبل ان يكون كاتبا صحفيا وباحثا مفكّرا… فلله درّه، رحل بنا خالد شوكات في استطلاعاته إلى بلدان ومناطق في أربع قارات من العالم في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا.. كتب بحماس الصحافي ودقّة الملاحظ وعقل المفكّر ورؤية القاص والروائي والشاعر ووضوح الجغرافي وأمانة المؤرّخ واستكشاف السّائح وحبّ اطّلاعه.
من هنا، بهذه العناصر، ساهم خالد شوكات حاليا في تجديد أدب الرّحلة بعدما لاحظنا تراجعا لهذا الأدب بفعل عوامل كثيرة في عصر السرعة والنسيان الذي تعيشه الإنسانيّة اليوم، ففي هذه الاستطلاعات الرّائعة والمريحة التي لا تجعلنا نشعر بالملل معطيات في كافة المجالات وقصّة ورواية وشعر وتحقيق وبحث وفكر بأسلوب سلس ولغة عربيّة جميلة، والدكتور خالد يتقن استعمال اللغة الفصحى الشّامخة أبدا في جميع كتاباته التي قدّمها إلينا.. وهكذا فإنّ الاستطلاع لدى خالد شوكات، كما أفهم، فنّ واسع يحتوي على مجموعة من الفنون الجميلة المتناغمة والمتناسقة والمتوحّدة.
إنّ هذا الكتاب يقدّم نفسه إلى القارئ بنفسه، لكنّني وأنا في أعماق نصوصه استفدت كثيرا بالمعلومات والأماكن والمعالم ونوعيّة الشخصيات الحاضرة في الاستطلاعات وقد جدّد لديّ حبّ المعرفة، معرفة بلدان بتاريخها وجغرافيتها وفنونها وآدابها وما قدّمته للإنسانية من إضافات حضارية وثقافية وعلمية، كنّا لعقود طويلة نتابع أشياء كثيرة من ذلك عبر مجلّة “العربي” باستطلاعاتها في شتّى القارات والمدن.. وها أنّ استطلاعات خالد شوكات عبارة عن بساط الريح يحملنا من بلاد إلى أخرى، ونكبر فيه ما بذله من جهد وخصّصه من وقت لتدوين مشاهداته وملاحظاته بدقّة عجيبة وتفاصيل دقيقة عن البلدان التي زارها والأماكن النائية من المعمورة والمواقع والمعالم والآثار والعادات والتقاليد عن شعوب أخرى نقلها إلينا بأمانة وبروعة ريشة فنّان مبدع وبصرير قلم ملهم، نقلها إلينا ونقلنا إليها، لم نكن نعرفها، وبعد قراءتنا لهذه الاستطلاعات شعرنا كأنّنا ذهبنا إلى تلك البلدان والأماكن والمواقع التي قطع آلاف الكيلومترات جوّا بالطائرة للوصول إليها، والحقيقة، دون مجاملة، إنّ مجرّد إنجاز هذه الاستطلاعات رحلة طويلة، بل رحلات، ومغامرة، بل مغامرات.. إنّ كتابة فنّ الاستطلاع لا يستطيع القيام بها كلّ واحد، فهذا الفنّ الصعب يتطلّب عبقرية وموهبة وذكاء وخبرة ووقتا طويلا وصبرا أطول وإيمانا قويّا.. إنّ لدى الصديق العزيز سي خالد جميع هذه العناصر وغيرها، فهو الكاتب الذي صنعته التجارب الحياتية والأحداث وخبر خبايا العلاقات الاجتماعية وخفاياها، وقد جعلت منه الحياة ونوعيات الناس الذين اختلط واحتكّ بهم وعاشرهم وتعامل معهم مباشرة جعلت منه إنسانا مؤمنا وعبقريّا وذكيّا وصبورا، وهو الخلوق والطيب والكريم الذي لا يتردّد في مساعدة غيره والعفيف الذي يسمو فوق الصّغائر مهما كان نوعها، وقد وجد في الكتابة سفرا جميلا ومنعشا مع الذات والعالم والآخرين، ليترك بصمات واضحة وآثارا صالحة للتاريخ والأجيال القادمة، رغم الحاقدين والمتخلّفين التافهين الدين قال فيهم الدكتور طه حسين:” الذين لا يعملون ويسيئهم أن يعمل الآخرون”.
وسفر خالد شوكات أسفار في هذه الاستطلاعات ورحلته في هذا الكون رحلات، ليس من السهل تجميعها كلّها في كتاب، ومنذ أن بدأ في نشر استطلاعاته في مجلّة “المصير” كنت أنتظر بفرح صدور هذا الكتاب.. وأنا أعلم أن لدى سي خالد استطلاعات أخرى كثيرة سوف يأتي دورها لإصدارها في كتب قادمة إن شاء الله. لأنّها تستحقّ.. ولأنّ من أنجزها وتعب من أجل تقديمها إلى الناس يستحقّ.
عبد السلام لصيلع