سهامه مجلسي
يُعتبر الخط العربي أهم الفنون التي أبدعتها الحضارة العربية الإسلامية وأكثرها انتشاراً في بلاد العرب والمسلمين على السواء، إذ هو حاضر في أنواع المساجد والعمارات، إنه ليس فناً ترفيهياً أو جمالياً عارياً عن الوظيفة، وإنما هو صناعة تثير في النفس أصدق مشاعر التوقير والإجلال ويشعر المسلم بأنه عضو في الأمة الإسلامية، إذ هو قبل كل شيء أداة التعبير القرآني، وهو هندسة روحانية بآلةٍ جسدية تجمع بين تجريد المعنى ومادية الرسم، وتحيط الناظر بأطر جمالية معرفية تمزج المادي بالمجرد فيرى نفسه فيه ويعمل على تجاوز المادي بحثاً عن المجرد تمكيناً لإيمانه بالله العلي القدير وسعياً به إلى الرقي في درجات الكمال، وفي هذا الصدد أجرت صحيفة الوفاق حواراً مع المستشار السياسي السابق للأمم المتحدة في العراق الفنان العراقي فليح عبدالحسن سوادي البديري وفيما يلي نصه:
نرى الكثير من الأشكال والأنواع للخطوط العربية فهل للخط العربي عدد محدد؟
نعم الحروف العربية عددها 27 حرفاً يتم رسمها بواسطة قصبة الخط بستة أشكال معروفة هي الثلث (نسبة إلى سُمك القلم)، والنسخ (الذي استخدم في خط المصاحف)، والرقعة (الذي تكتب به الرسائل والرقاع)، والفارسي(نسبة لاختراعه في بلاد فارس)، والكوفي (الهندسي والزهري، وهو أقدم الخطوط) والديواني (نسبة الى ديوان السلطان)، وتوجد تفرعات بتداخل خط مع آخر مثل الديواني الجلي (اي الديواني الواضح) والريحاني وغيرها، أما الخط الحر فهو في الحقيقة رسم للحروف وليس نوع من الخطوط.
تناول الإمام علي(ع) موضوع الخط وتحسين الكتابة، وقال: “عليـــكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق”، وقال أيضاً: ” أكــرموا أولادكم بالكتابة فإن الكتابة من أهم الأمور وأعظم السرورط، وأيضاً قال: “الخــط الحسـن يزيد الحق وضوحاً”.
وللعلم أن أول نزول القرآن الكريم على رسوله الأمين(ص) كان بدون نقاط ولا تشكيل إعرابي، لأن لغة العرب واضحة لديهم إلى أن دخل في الإسلام بعد ذلك أقوام أعاجم كالفرس والروم والبربر وغيرهم، مما نشأت الحاجة إلى التنقيط والتشكيل الإعرابي للكلمات.
وكذلك هناك عوامل لابد من رعايتها تجتمع في إظهار لوحة الخط هي تتمثل في أدوات الخط: القلم وهو القصبة من الخيزران، وأفضله الخيزران الفارسي الذي يجب ان يقطع بشكل صحيح، والحبر الخاص وإذا لم يتوفر في الأسواق الهندسية فيستخرج بالطريقة الشعبية، ثم نوع الورق الذي يكون عادة سميك وصقيل والذي يضع جرماً على الورقة ولا تمتصه كما في حبر القلم العادي، واخيرا سكين قطع القصبة الحاد والتي تستخدم أيضاً في تصحيح وسلامة الخط بحك الزيادات الطارئة عليه.
وكان لإيران دور كبير في تحسين الخط، فمنذ انتشار الإسلام، انتقل الخط الى الكثير من الدول الإسلامية التي تتعامل مع الحروف العربية مثل شمال أفريقيا وبلاد فارس وتركيا وجنوب شرق آسيا، وكانت إيران السبّاقة لاحتضان هذا الفن وأبدعت فيه واخترعت الخط الفارسي المسمى «نستعليق – النسخ المعلّق، وبعده خط الشكسته أي المتكسر وكأن حروفه مبعثرة» وإضافته إلى الخطوط الخمسة الأصلية، ونبغ فيها أساطين الخط من الأساتذة المرموقين، ويقال بأن أقدم ما خطه مخطوط كَتبَه أبو بكر البيهقي سنة 430 هـ، وقام بتحسينه في العصر التيموري الخطاط (مير علي التبريزي) في القرن الثامن الهجري، والذي كان يعمل في البلاط التيموري، وخلفه ابنه عبد الله فأكمل بعض التفاصيل في هذا الخط الجديد. وكان له تلميذان مشهوران، أولهما (جعفر التبريزي) الذي كانت له رئاسة أربعين خطاطًا في بلاط أمير بايسنقر، والثاني هو (ازهر التبريزي)، وازدهر الخط بعد ذلك في العصر الصفوي مرورًا بالعصر القاجاري ووصل إلينا هذا اليوم.
كيف تتعاملون مع الزخرفة بوصفها عنصراً جمالياً آخر ضمن اللوحة الخطيّة؟
أختصر التعاريف والأقوال للزخرفة وأقول بأنه فن أصبح يُقال عنه (حرفة يدوية) يؤديها شخص يقتبس من جمال الطبيعة من تراكيب الأشجار وأغصانها وأوراقها وزهورها والمنحوتات العجيبة التي تفعلها الرياح والأمطار والأنهار بهياكل الجبال وبالسهول والوديان والأمواج البحرية الساحرة، وحتى جمال ما صنعه الإنسان، وليس بالضرورة أن يكون عامل الزخرفة خطاطاً أو رساماً هاوياً أو محترفاً، إن الزخرفة عملياً هي إظهار الجمال وصياغته لإبراز المخطوط أو المرسوم أو المصوّر. وتُستخدم فيها الألوان الجذابة وأداؤها يكون كإطار أو كأرضية يخط عليها أو يرسم عليها وهكذا. ودخلت الزخرفة في جماليات المقاعد والمرايا والأثاث البيتي جدران المعابد منذ القدم فقد استخدمت منذ آلاف السنين، ونجد آثارها في الكهوف والمعابد والكنائس والمساجد، وتزين داخل قباب الأماكن الدينية الروحية كما نراها في الكاتدرائيات والمراكز والمساجد الإسلامية والمتاحف والأماكن الترفيهية، ومن يدخل مراقد الأئمة(ع) يجد زخارف بالموزائيك وتشتهر بصناعته مدينة كربلاء المقدسة في العراق، وبقطع المرايا الخاطفة للأبصار…
هل هناك علاقة بين الهندسة والخط والفنون عامة؟
بالطبع هناك علاقة جداً وثيقة بين علم الهندسة والحروف الكتابية بأدواته في الخطوط والزوايا والمساحات والحجوم كالمكعبات والأهرام وغير ذلك وأنواع الخطوط كالمستقيم والمنحني والأشكال الهندسية المختلفة مثل المربع والمثلث والدائرة والأبعاد الثلاثة للحجوم المشكلة للأجسام، خصوصاً إذا عملنا تلقيحاً أو تنسيقاً بين الخط والرسم والزخرفة لإنتاج خليط يشكل لوحة فنية من حروف الخط التي تتنافر أحياناً وتتحد أحياناً أخرى لتعطي كلمة أو جملة ولتعبر عن معنىً يقصده الخطاط ويعرضه على المشاهد المتلقي للوحة، أما سؤالكم عن علاقة الخط بالفنون العامة فإن الكتابة والخطوط هي الوسيلة الأولى في الإعلان عن الأفلام والمسرحيات ومعارض الخط والرسم، عموماً الإعلان عن أي منتج حتى الصناعي والزراعي والطبي والسياسي يحتاج إلى عرضه للجمهور عبر الكتابة وتحسين العناوين المعروضة لتلفت نظر وانتباه المشاهد…
ماذا عن أهم المعارض التي شاركت فيها؟ وما أبرز ملامح مسيرتك الفنية؟
برزت ملامحي الفنية في سن الدراسة الإبتدائية، لكنها تألقت وتطورت حينما دخلتُ الجامعة في عام 1973م إذ أعطتني دراستي للهندسة زخماً قوياً في تجويد الخط والرسم والتزاوج بينهما، شاركتُ في معارض مشتركة وشخصية منفردة أكثرها في أيام الدراسة الجامعية والمعرض السنوي في اليوم التأسيسي للجامعة، وغير المعارض الفنية، فقد عملتُ خطوطاً وزخارف في أماكن كثيرة ، في مسجد جامعة الموصل عام 1974م ومصليات بعض الأقسام الداخلية لسكن الطلبة والطالبات، حينما كنت طالباً في كلية الهندسة، وكذلك محراب مسجد أمير المؤمنين(ع) في منطقة الجديدة الثانية في مدينة النجف الأشرف، وكذلك مراقد لأبناء أهل البيت(ع) في قرى أطراف مدينة الموصل…الخ.
وفي الجمهورية الإسلامية الايرانية عملتُ معارض شخصية في طهران ومدينة مشهد المقدسة وقزوين وأهواز وقم المقدسة وفي مدينة دمشق في الجمهورية العربية السورية وفي بيروت، وكانت لوحاتي تمزج بين حروف الخط والرسم التشكيلي وتُعبر عن الواقع الاجتماعي والسياسي المحلي وفي المنطقة والعالم وتُمثل هموماً وقضايا معاصرة.
ما الرسالة التي تحاول نقلها عبر فن الخط العربي وإبداعاتك؟
إذا عرفنا بأن الموهبة مهما كانت هي هبة من الله (سبحانه وتعالى) فإننا يجب علينا أن نتحمل مسؤولية حمل هذه الأمانة ونوجهها توجيها يصب في السعادة الفردية والمجتمع الذي نعيش فيه، فمن يقول بأن «الفن للفن» نقول له إن «الفن للإنسانية»، وعلى هذا المبدأ الرائق تكون موهبة الخط هي مسؤولية قبل أن تكون «شرفاً ورفعة» للإنسان المبدع، وأن تكون الزينة التي يعكسها الخط تصب في سعادة الإنسان ورسالة لنشر الوعي والإعتماد على النفس في مواجهة التحديات الشخصية والاجتماعية والوطنية.
ما هو واقع الخط العربي اليوم في البلاد العربية الإسلامية وما هي المخاطر التي تهدده؟
إن التقنية الحديثة في تطور دائم حتى ظهر الحاسب الآلي (Computer) ودخل في تنظيم حاجات الانسان وخدمته في المجالات المختلفة، ومنها الخط العربي، فقد تم تطوير رسم الحروف ما سُمي بـــ “الخطوط الطباعية أو المطبعية”، وهي خط للحروف واضح ومقروء بسهولة والتي دخلت في طباعة ونشر الكتب المتنوعة منطلقة من سبك وميزان الخط العربي الأصيل، ثم قام أصحابها من الخطاطين والمصممين بتهيأتها ونشرها في شكل برامج حاسوبية، يستطيع بواسطتها أي شخص صاحب ذوق أن يبدع في كتابة الخط العربي دون الحاجة لاستخدام قلم الخط المتعارف والذي هو قصبة الخيزران، وكذلك الورق الخاص الذي استبدل بالورق الإعتيادي المستخدم في طباعة الكتب. فانحسرت صناعة قلم الخط وورقه الخاص، وهذه الخطوط الطباعية أصبحت نتاجاً رائعاً ومطلوباً يلبي الحاجات الطباعية اليومية للأفراد والمؤسسات والشركات. هذا الاختراع بالرغم من فائدته التي لا يُستهان بها، إلا أنها أضعف التوجه لتعلم خط الحروف وضبط ميزانها باليد والأنامل المجردة من أصوله المبتني عليها في كل نوع من أنواع الخطوط، فأخذ انتشار الخطوط اليدوية بالانحسار، وفي بعض المناطق أدى إلى توقف العمل بها وأصبح الخط زينة فقط… لكن الأهم من هذا وكما يقول الحكماء “مايخرج من صميم القلب يدخل إلى القلب” فإن حركة الأنامل والتفافها على القلم يشعر الخطاط بنشوة وتفاعل قلبي لا يدركه إلا من مارسه، فلا تستطيع الآلة الخالية من الشعور والإحساس أن تعوض الخط عن فقدان روحيته التي تؤثر على الناظر.
بعيداً عن كون الخط العربي جزءاً من هويتنا وثقافتنا، ما هي أهميته في وقتنا الحالي؟
في الحقيقة، مادامت الطبيعة التي خلقها الله (سبحانه وتعالى) في الأرض وفي البحار متنوعة وتعطينا في كل يوم شيئاً جديداً يرفع من معنويات الإنسان لمزيد من التحمل والإبداع، فإن المواهب تزدهر ولا تضمر، ومنها فن الخط الجميل الذي يكحل عيوننا في كل صباح بمختلف الأشكال والهيآت، وهو مايدفعنا لحماية ودعم وإسناد الخطاطين المبدعين وتوفير سبل الإستفادة من إبداعاتهم…