كشفت حملة “إيران المتضامنة” التي جمعت بين تبرعات الذهب والأموال والمساعدات العينية لفلسطين ولبنان، عن قدرة المجتمع الإيراني على تجاوز الماديات وتقديم ما يملكه من أجل هدف إنساني وديني أسمى. لم يكن الدافع وراء هذا العطاء السخي هو الاستجابة لأوامر قائد الثورة والجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي فحسب، بل كان تعبيرًا عن شعور عميق بالمسؤولية تجاه قضايا الأمة الإسلامية والالتزام بمساندة المظلومين أينما كانوا، وأن دعم هذه القضايا يتجاوز الحدود.
عاش زوجان شابان لسنوات في بيت بالإيجار، وادّخرا لشراء شقة صغيرة في مدينة “برديس” بضواحي طهران بعد سنوات من العمل، لكن فجأة قررا التبرع بكل ما يملكان. عرض الزوج، علي رضا جلولي، الشقة في مزاد مع شرط أن يذهب ثمنها لمساعدة الشعب اللبناني، وكان السعر يبدأ من 3.5 مليار تومان (حوالى 51 ألف دولار). يُعَد علي رضا واحدًا من بين آلاف الإيرانيين الذين قدموا تبرعات سخية بعد صدور أمر من قائد الثورة والجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي للمسلمين بضرورة دعم الشعب اللبناني وحزب الله وكذلك الشعب الفلسطيني ومقاومته.
أثارت هذه الدعوة موجة تعاطف وتضامن في إيران، حيث نظمت المساجد والمؤسسات حملات لدعم الشعبين اللبناني والفلسطيني. أعلن مكتب السيد خامنئي عن المرحلة الرابعة من حملة “إيران المتضامنة” التي كانت قد دعمت سابقًا المتضررين من الفيضانات وجائحة كورونا. انطلقت الحملة في جميع أرجاء البلاد، وأُقيمت محطات لجمع التبرعات، في المساجد ومقرات صلاة الجمعة ومكاتب قائد الثورة وممثلي المرجعيات في جميع المحافظات، وخصصت حسابات مصرفية إلكترونية للمساهمات، وشاركت مختلف فئات المجتمع في هذه الحملة الوطنية.
وشاركت العديد من الشخصيات البارزة في إيران في حملة “إيران المتضامنة”، من بينهم الممثل داريوش أرجمند، المعروف بدور مالك الأشتر في مسلسل “الإمام علي (ع)”، وفريق إنتاج مسلسل “طوبى” الشهير وغيرهم. كما أظهر مسؤولون إيرانيون دعمهم للحملة، مثل رئيس مجلس الشورى الإسلامي، محمد باقر قاليباف، ورئيس السلطة القضائية، الشيخ غلام حسين محسني إجئي، إلى جانب عدد من الوزراء والمسؤولين. وانضم شعراء ومدّاحون وفنانون آخرون، مما زاد من مشاركة النخب الإيرانية في دعم الحملة.
حملة “إيران المتضامنة” لم تقتصر على الشخصيات المشهورة، بل شملت مختلف فئات الشعب الإيراني. وما جعلها حدثًا بارزًا هو الاستقبال الواسع وغير المسبوق من عامة الناس، حيث تُنشر يوميًا قصص مؤثرة عن تضحياتهم لتقديم الدعم المالي لجبهة المقاومة في فلسطين ولبنان.
في هذه الأيام التي يدور فيها الحديث حول ارتفاع أسعار الذهب عالميًا وأهميته كاستثمار أو كمخزون للأيام الصعبة، قامت النساء في إيران بخطوة استثنائية، ولم يترددن في تقديم أثمن ما يملكن والتبرع بذهبهن الثمين. فقد قدمت سيدة من محافظة تبريز مجموعة مجوهرات ذهبية قيمتها 1.75 مليار تومان (26 ألف دولار). وفي محافظة بوشهر، قامت مجموعة من النساء ببيع مجوهراتهن، وجمعن في يوم واحد نحو ملياري تومان (30 ألف دولار) لدعم جبهة المقاومة، وشاركت أيضًا نساء من محافظة قم بنفس المبادرة وتم جمع 22 مليار تومان (323 ألف دولار) في أقل من أربع ساعات.
في الأسابيع الأخيرة وفي كل جمعة، وقبل بدء صلاة الجمعة، تحولت ساحات المساجد إلى مشاهد نابضة بروح العطاء والتضامن. نساء يقفن في طوابير طويلة، يحملن بين أيديهن ما جمعنه من قطع ذهبية ومجوهرات ثمينة، من سلاسل وأساور إلى أقراط وخواتم خطوبة وزواج. لم تقتصر التبرعات على المجوهرات، بل شملت حتى العملات الأجنبية.
بجانب أحد صناديق جمع التبرعات، كان هناك طفل صغير كسر حصّالته المليئة بالعملات المعدنية ليقدمها كتبرع لدعم الشعبين اللبناني والفلسطيني. كما تبرعت امرأة مسنّة تعتاش من نسج الليف بدخل شهرين من عملها، والذي يبلغ حوالي 35 دولارًا. في مكان آخر، سيدة أهدت خاتمًا ذهبيًا ثمينًا كان ذكرى من زوجها الشهيد، ولم تتردد في تقديمه رغم قيمته العاطفية الكبيرة. أما سيدة أخرى فقدمت ذهبها بنية والدتها ووالدها وأختها الذين رحلوا عن الدنيا، وبرزت امرأة أخرى بتقديم قلادة فريدة، نقشت عليها آية “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”، وقالت إنها تهديها للشعبين اللبناني والفلسطيني على أمل أن تحمل معها بشائر النصر والانتصار.
وفي مشهد مؤثر آخر، قدمت سيدة إرث والدتها، الذي كان عبارة عن خاتم وحلقة زواج والدتها، يحملان في طياتهما ذكريات مضى عليها ستة عقود. لم يكن القرار سهلًا، فهذه القطع كانت رمزًا لعقود من الحب والأسرة والتاريخ، لكن إيمانها بقيمة التضامن والدعم جعلها تضع هذه الذكريات الثمينة في يد من يحتاجها.
وتروي إحدى السيدات كيف تبرعت بمبلغ كبير فتقول: “عندما تحدثت مع زوجي وأخبرته أنني أرغب في تقديم مثل هذا المبلغ الكبير لدعم الشعب المظلوم في غزة وجنوب لبنان، سألني: هل أنت متأكدة من أنك لا تتبعين مشاعرك فقط؟، كان جوابي واضحًا. بعت كل الذهب الذي جمعته على مدار 30 عامًا من حياتي، بالإضافة إلى كل الهدايا، وحولتها إلى نقود. كان لدي أيضًا بعض المال من إرث والدي، ووهبت كل ذلك لهذه الحملة. فقال لي زوجي: سأساعد أيضًا، ثم ذهب وأخذ قرضًا وانضم إلى هذه الحملة”.
في تصريحات متعددة ومتنوعة، أعربت النساء المشاركات في حملة التبرعات عن مشاعرهن في دعم قضايا الأمة الإسلامية. قالت إحدى النساء: “أنا أملك فقط هذه القلادة الذهبية وجئت لأتبرع بها حتى أفرح قلب قائد الثورة الإسلامية”، وأضافت أخرى: “الذهب مُهم جدًا للنساء، ولكنه لا يضاهي أهمية الدفاع عن الإسلام ومساندة الأبرياء في لبنان وفلسطين”، وصرحت سيدة ثالثة: “أهديت سوارًا كان هدية من والدي في يوم عقد قراني للمقاومة”، وأشارت إحدى المشاركات: “لم أرَ في حياتي مثل هذا الطابور من النساء يجتمعن لتقديم ذهبهن”، وقالت أخرى: “بعد أمر القائد، حُب الذهب لم يعد له الأولوية”، وصرحت سيدة أخرى: “حضرت مع بناتي الثلاث، وكل واحدة منهن تحمل بطاقة هدية مصرفية، ونود أن تصل تبرعاتنا إلى أطفال لبنان وفلسطين”.
ولم تقتصر التبرعات على النساء، بل كانت بالزخم نفسه عند الرجال أيضًا، أحدهم تبرع بسيارته وهي وسيلته الوحيدة للذهاب إلى العمل، ورجل آخر حصل على سيارة جديدة للتو، لم يتردد في تقديمها فور استلامها. وقال رجل آخر: “أملك قطعة أرض واحدة في الدنيا، بعتها وتبرعت بمليار تومان (15 ألف دولار) من ثمنها لدعم لبنان وفلسطين”. وفي مدينة همدان تبرع فلاح مُسن بمبلغ 2 مليار تومان (حوالى 30 ألف دولار)، وهذا المبلغ كان كل ما يملكه في حياته، فقال: “لا أملك الآن سوى ثمن كفني، والكفن لا جيوب فيه”، وانضم موظفون أيضًا بتخصيص دخل يوم عمل كامل لدعم الشعبين اللبناني والفلسطيني. وأظهر صاحب أحد محال البقالة في مدينة قزوين، كرمًا كبيرًا عندما قدّم شيكًا بقيمة مليار تومان (15 ألف دولار) مساهمةً منه في هذه الحملة. بينما تبرع أستاذ جامعي من تبريز، بشقة تبلغ مساحتها 275 مترًا مربعًا، وتقدر قيمتها بإثني عشر مليار تومان (176 ألف دولار)، وقام بتقديم هذه الهبة إلى هيئة دعم جبهة المقاومة في محافظة أذربيجان الشرقية.
وتحت شعار “ينفقون مما يحبون”، تستمر هذه الحملة في جمع التبرعات بأنواعها مجموعة من النساء بدأت بحياكة ملابس دافئة لدعم الأطفال في فصل الشتاء، فيما جمع آخرون مئات الآلاف من الأحذية والملابس الشتوية والبطانيات لتقديمها. لم تقتصر التبرعات على والذهب النقود، بل شملت أيضًا مساعدات عينية مثل المواد الغذائية. حتى الآن، قامت جمعية الهلال الأحمر بإرسال 100 شاحنة محملة بالمواد الغذائية والاحتياجات الضرورية التي تبرع بها الناس إلى لبنان. بدأت الجمعيات الخيرية الأخرى في مختلف محافظات إيران بتنظيم حملات لجمع التبرعات. تم وضع صناديق جمع التبرعات النقدية والعينية في المساجد والأماكن العامة، لتسهيل مشاركة الجميع في دعم المحتاجين وتنظيمها، وتأكيد روح التضامن الإنساني التي تسود بين المسلمين في جميع الأقطار.
رضا يحيى