على مر العصور، ارتبط اكتمال القمر بالعديد من الأساطير والخرافات التي تشير إلى تأثيره على سلوك البشر، بدءًا من تحفيز الجنون وصولاً إلى التسبب في أحداث غامضة وغير مفسرة. من بين هذه الأفكار، برزت نظرية تشير إلى أن اكتمال القمر قد يؤثر على سلوك الأطفال، بل ويزيد من احتمالية التصرفات العنيفة لديهم. لكن هل لهذه النظرية أساس علمي؟ وهل يمكن أن يكون للقمر، بتأثيره الثقافي والجمالي، دور في تشكيل سلوكياتنا؟ في هذا المقال، سنستكشف هذه الفرضية من خلال مراجعة الأدلة العلمية والثقافية.
جذور الفكرة: القمر وسلوك البشر
يعود الربط بين القمر وسلوك البشر إلى أزمان بعيدة، حيث اعتقدت العديد من الثقافات القديمة أن للقمر تأثيرًا مباشرًا على الصحة العقلية والنفسية. في اللغة الإنجليزية، يُشتق مصطلح “lunatic” الذي يعني مجنون، من كلمة “luna” اللاتينية التي تعني القمر. كان يُعتقد أن مراحل القمر، خاصة مرحلة الاكتمال، تؤدي إلى اضطرابات نفسية وزيادة في التصرفات الغريبة أو العنيفة.
تستند هذه المعتقدات إلى ملاحظات قديمة ربطت بين سلوك الحيوانات والبشر وبين القمر المكتمل. فقد لاحظ بعض الفلاحين أن الحيوانات تكون أكثر نشاطًا خلال الليالي المقمرة، بينما افترض آخرون أن القمر يؤثر على المد والجزر، وبالتالي يمكن أن يؤثر على السوائل في أجسامنا بنفس الطريقة. من هنا، جاءت فرضية أن القمر المكتمل قد يكون له تأثير مماثل على دماغ الإنسان وسلوكه.
الدراسات العلمية حول تأثير القمر
على الرغم من الجاذبية التي قد تحملها هذه الفكرة، إلا أن العلم قدم أدلة قليلة تدعم العلاقة بين اكتمال القمر والسلوك العنيف، سواء لدى الأطفال أو البالغين. أجريت العديد من الدراسات على مدى العقود الماضية لتحليل ما إذا كان هناك ارتباط بين مراحل القمر ومعدلات السلوك العدواني، الجرائم، أو حتى حالات الطوارئ النفسية. معظم هذه الدراسات لم تجد أي دليل يثبت وجود تأثير ملموس لاكتمال القمر على السلوك.
فعلى سبيل المثال، دراسة نُشرت في مجلة “American Journal of Emergency Medicine” حللت بيانات من أقسام الطوارئ ولم تجد أي زيادة في الحوادث العنيفة أو الطارئة خلال فترة اكتمال القمر. وبالمثل، لم تظهر الدراسات المتعلقة بسلوك الأطفال أي ارتباط واضح بين اكتمال القمر وزيادة العدوانية أو السلوكيات العنيفة.
العوامل النفسية والثقافية
إذا كان العلم ينفي وجود علاقة سببية مباشرة بين اكتمال القمر والسلوك العنيف، فلماذا تظل هذه الفكرة شائعة؟ يكمن الجواب في العوامل النفسية والثقافية التي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل تصوراتنا. أولاً، يمكن لتوقعاتنا المسبقة أن تؤثر على تفسيرنا للأحداث. إذا كنا نعتقد أن اكتمال القمر يؤدي إلى سلوكيات غير عادية، فقد نميل إلى تذكر أو ملاحظة الحالات التي تتوافق مع هذه الفكرة، ونتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. هذه الظاهرة تُعرف باسم “التحيز التأكيدي”، وهي تدفعنا إلى البحث عن الأدلة التي تدعم معتقداتنا القائمة بدلاً من تلك التي تفندها.
ثانيًا، يرتبط القمر بالعديد من الرموز الثقافية التي تعزز هذه التصورات. في الأدب والسينما، يظهر القمر المكتمل غالبًا كخلفية للأحداث الغامضة أو العنيفة، مما يرسخ في أذهاننا فكرة ارتباطه بالسلوك غير الطبيعي. هذه الصور الثقافية قد تخلق شعورًا غير واعٍ بأن القمر له تأثير حقيقي على سلوكنا، حتى عندما لا يدعمه العلم
دور البيئة في سلوك الأطفال
عند النظر إلى سلوك الأطفال، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل البيئية والنفسية التي تؤثر عليهم يوميًا. التغيرات في الروتين اليومي، قلة النوم، الضغوط العائلية أو المدرسية، وحتى التفاعلات الاجتماعية، كلها تلعب دورًا أكبر بكثير من أي تأثير محتمل للقمر. إذا لاحظ الأهل زيادة في سلوكيات العنف أو الاضطراب لدى أطفالهم خلال فترة معينة، فمن المهم البحث عن الأسباب الجذرية المرتبطة بحياة الطفل اليومية بدلاً من ربطها بظواهر طبيعية لا تؤثر في السلوك بشكل مباشر.
بينما يحتل اكتمال القمر مكانة خاصة في ثقافتنا وتصوراتنا، إلا أن العلم الحديث لم يجد دليلًا يثبت أن للقمر تأثيرًا على سلوك الأطفال العنيف. تبقى الفكرة جزءًا من الموروثات الثقافية والشعبية التي تواصل العيش في الذاكرة الجماعية. في النهاية، إذا كان هناك من تأثير، فإنه ينبع من توقعاتنا وتفسيراتنا للأحداث، وليس من القمر نفسه. لذا، من الأجدى التركيز على العوامل الحقيقية التي تؤثر على سلوك الأطفال، وتقديم الدعم المناسب لهم بناءً على فهم علمي ونفسي دقيق.
أوس ستار الغانمي